يكتسب السجال حول الإسلام في أوروبا حضورا لافتا في السنوات الأخيرة. حيث فجر الهجوم الإرهابي على جريدة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة في يناير من العام 2015 وأحداث باريس الدامية في نوفمبر 2015، تساؤلا أساسيا: ما الذي حدث؟
قبل ذلك طرحت منذ تسعينات القرن الماضي في فرنسا إشكالية الهوية “من هو الفرنسي؟” في وسائل الإعلام والمناظرات الفكرية والكتب، نتيجة التحديات التي يفرضها ملف المهاجرين. وانعكس هذا التوجّس في الأدب الفرنسي. تمثل رواية “خضوع” (2015)، التي صنفها النقاد ضمن أدب الخيال السياسي للروائي الفرنسي ميشال ويلبيك، هاجسا مضمرا في اللاوعي الجمعي الفرنسي. وقد توقعت بنبرة استشرافية أدبية وصول مسلم إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية عام 2022.
وعلى الرغم من انتشار الأدبيات المحذرة من الإسلام في فرنسا، لا سيما في العقدين الأخيرين، فإن كتابا آخرين عملوا على فهم تعقيدات “الإسلام الفرنسي” خارج إطار صدام الهويات والحضارات. ونشرت أعمال عدة اتصفت بالموضوعية والحياد، نذكر منها، على سبيل المثال، كتاب الباحث الفرنسي أوليفييه روا “نحو إسلام أوروبي” وهو لا يتخذ نهجا تقريظيا، إنما يسعى إلى تفكيك الإسلام الأقلوي داخل فضاء علماني لا يكترث بالدين.
الأسئلة الحادة عن قابلية المسلمين للتكيّف مع القيم الغربية، لا تحجب أسئلة مقابلة عن وجاهة تحوّل العلمانيات الأوروبية إلى علمانيات رادعة للتعبيرات الدينية. هذا النقاش يعكسُ قلقا متبادلا على الهوية يسود منذ فترة في أوروبا، فرضته عوامل متضافرة، بدأت من شيوع التعبيرات الإسلامية المتطرفة في الفضاء الأوروبي العام، وتواصلت مع رد فعل يميني عمّم النظرة إلى الوجود الإسلامي على أنه احتلال جديد. وبين النظرتين ظل التوتر القيمي سائدا ما اضطر الأجيال الشابة إلى ابتكار تسويات مؤقتة لوجودها تسمح لها بمواكبة عصرها وباحترام خصوصياتها في آن
منذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر المسلمون في أوروبا في المشاهد المدنية على خلفيات إثنية ومذهبية عدة. بقي هذا الحضور “لا انفعاليا” في مجتمع الأكثرية. وما إن أصبح الإسلام مرئيا في المجال العام حتى أدى إلى إحداث اضطراب في المتخيل الجمعي الأوروبي في موازاة مبادئ “الدَّنْيَوة” والحرية. وتثير عالمة الاجتماع الفرنسية من أصل تركي نيلوفر غول، في كتابها “مسلمون في الحياة اليومية: تحقيق أوروبي حول المجادلة المحيطة بالإسلام” الإشكالية التالية: هل الإسلام قابل للتكيف مع القيم الغربية أم لا؟
ولذلك فهي تعود إلى سياقات بارزة جعلت من الإسلام الأوروبي مسألة سياسية وثقافية يتخللها الكثير من التوتر: الإرهاب الإسلاموي، فتاوى التكفير، المحجبات في أوروبا، كما لو أننا أمام حرب يتنافس على ساحتها المسلمون المهاجرون والأوروبيون. وفي ملاحظة دالة تعقيبا على الهجمات الإرهابية التي تعرض لها الغرب، خصوصا في الولايات المتحدة (في العام 2001)، ولندن (2005)، تشير الكاتبة إلى أن الجهاديين يعمدون إلى مهاجمة الأماكن العامة الجامعة للألوان: الطرقات، المراكز التجارية، المتاحف، المكتبات، والمدارس، من أجل كسر روابط التلاقي التي تشكل قاعدة مشتركة.
نظر بعض الأوروبيين إلى القوى التقليدية حاملة لواء الشريعة وتحجيب النساء داخل أوروبا كـ“هجمة” ترفعها قوة الإسلام الوافدة من أرض المسلمين، أي كواقع متحقق عندهم، مما أدى إلى إنتاج تهديد يتقاذفه عالمان متقابلان. هذا “التوتر القيمي” ضاعف من التشابك، حيث مُنع في عدد من الدول الأوروبية حمل الرموز الدينية داخل المدارس والمسابح والمحاكم من أجل تحجيم مرئية الإسلام.
تُعد إشكالية العلمانية والإسلام من أكثر الإشكاليات إثارة للجدل في فرنسا. شكل تقديس العلمانية كمبدأ سياسي وثقافي عقبة أمام أشكال التعبير الديني، إذ تعاملت العلمانية الفرنسية بقسوة مع المظاهر الدينية. يطرح المؤرخ الفرنسي جان بوبيرو في كتابه “العلمانيات في العالم” رؤية مختلفة، محددا أربعة مبادئ تنهض عليها العلمانية:
فصل الكنيسة عن الدولة، حياد السلطة العامة تجاه المؤمنين، حرية الوعي، والمساواة في الحقوق. بحسب بوبيرو، فإن النقاش حول الإسلام وتحريم الرموز الدينية في المجال العام أدى إلى تضخم مبدأ الحيادية، إلى درجة تحليله كتحييد للمجال العام وليس حياد السلطة التي تحترم القواعد. وقد صنف هذا المفهوم ضمن خانة “العلمانية الرادعة” المانعة للتعابير الدينية التي أباحها قانون 1905، حيث أعطى مكانة خاصة للأديان على الرغم من عدم اعترافه بأي ديانة، أي أن حرية المعتقد تكفلها الجمهورية الفرنسية للجميع.
طرحت صلوات المسلمين – لا سيما صلاة الجمعة – في الأماكن العامة مشكلة في فرنسا بدءا من عام 2000. وكانت مارين لوبان (زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية) من أوائل الذين نظروا إلى هذه المسألة من الزاوية السياسية. في ديسمبر 2010 وصفت الصلوات في الشوارع بـ”الاحتلال” مقارنة إياها بالاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي بولونيا التي تضم أكبر كاتدرائية في العالم سجل نقاش حاد حول صلاة المسلمين في الشوارع والساحات. وفتحت التظاهرة التي قام بها المسلمون تضامنا مع أهالي غزة إثر الاعتداء الإسرائيلي عام 2009 والتي تلتها صلاة جماعية باب المخاوف. وقد أدرجت الممارسات الدينية في سياق “أسلمة أوروبا” و”التهديد الإسلامي في إيطاليا” ونُظر إليها كعلامة دينية تفاخرية مقلقة.
شكل تقديس العلمانية عقبة أمام أشكال التعبير الديني، إذ تعاملت العلمانية الفرنسية بقسوة مع المظاهر الدينية
شكل الاستفتاء المؤيد لحظر المآذن في سويسرا عام 2009 ضربة للحريات الدينية والتسامح. حيث أيّد نحو 57.5 بالمئة مبدأ الحظر على خلفية نمو أيديولوجيا إسلامية. ويشار إلى أن نظام “الديمقراطية المباشرة” في سويسرا يسمح للأحزاب ومجموعات من الأفراد بطرح قوانين يصوت عليها من خلال استفتاءات شعبية في تجاوز للبرلمان. بعد أسبوع على الاستفتاء قادت الكاتبة نيلوفر غول فريق عمل في جنيف. أظهر لقاء مع مجموعة من السويسريين والمسلمين الحاصلين على الجنسية السويسرية، تباينا في الآراء: طرف اعتبر أن من حق أتباع الديانات ممارسة شعائرهم الدينية مع احترام القوانين العامة، وآخرون رأوا أنها تهدد الهوية السويسرية.
وفي سراييفو أدت المطالب التي رفعها مسلمون لبناء مسجد جديد في حي “علماني” إلى تنامي رهاب الأسلمة. خلال التحقيق الميداني الذي أجريَ في يونيو 2010 كشفت الأفكار خلال الحوار المفتوح عن قلق عام لدى المشاركين من البوسنيين إزاء مخاطر السلفية. ورغم سيطرة مظاهر الإسلاموفوبيا، كما تطرحها مسألة بناء المساجد والمآذن، فإن ثمة استثناءات في المجال الأوروبي. حيث شذّت مدينة كولونيا الألمانية على القاعدة، حيث تمكنت الهندسة الجديدة لمسجد كولونيا المركزي المتآلف مع نمط العمارة الأوروبية من إنتاج مساحات للتعايش بين الديانات، رغم الاعتراضات التي رافقت مراحل البناء.
وتبرز الكاتبة بعض الأحداث التي شكلت جزءا من السجال في أوروبا، مثل الرسوم الدنماركية التي ظهرت في 30 سبتمبر 2005، وسيناريو الفيلم القصير الذي وضعته الناشطة أيان حرسي علي “خضوع” للمخرج الهولندي ثيو فان غوخ، الذي أدى إلى مقتله عام 2004. بدءا من التسعينات أصبحت الروابط بين الفن والأدب والإسلام جزءا من النقاش الدائر في الأوساط الثقافية الأوروبية، مع استعادة لما تعرض له سلمان رشدي الذي صدرت فتوى بهدر دمه من قبل الخميني، على خلفية كتابه ذائع الصيت “آيات شيطانية”.
لا يطبّق الجيل الشاب في المجتمعات الأوروبية الشريعة بأنماطها التقليدية، بل يفضلون الاستخدام الانتقائي لـ“الحلال”. يتجهون إلى ابتكار مفاهيم جديدة أكثر مرونة وعصرية حول الذبح الحلال والصلاة، والفن، والعلاقة مع الجسد، والجنس والحب والموسيقى. ويعملون على توفير توافقات خاصة تؤهلهم للعيش اليومي ضمن سياقات تجمع بين الدين والحداثة. فقد أنتجوا توليفة خاصة بهم امتدت إلى استهلاك الأكل الحلال، وممارسة الهيب هوب الإسلامي، والمشاركة في الاحتفالات دون شرب الكحول.
ويعيش الشباب المسلمون تقاليدهم الدينية وفقا للسياق الأوروبي، من أجل بناء “تسوية مؤقتة” إسلامية في حياتهم اليومية، استنادا إلى انتقائية تسمح لهم بالولوج إلى حياة عصرية دون التخلي عن الممارسات الدينية، وعن خصوصياتهم كمسلمين مؤمنين.
ملخص ما نشر في مركز المسبار للدراسات والبحوث قراءة ريتا فرج في 1 أبريل 2018 لكتاب “مسلمون في الحياة اليومية: تحقيق أوروبي حول المجادلة المحيطة بالإسلام”.