عندما ارتأى المشرّع اللبناني أن لا تشارك الأسلاك العسكرية والأمنية بكلّ مراتبها ورتبِها في الاستحقاقات الانتخابية الدستورية، وحتى العادية، إنّما أراد من ذلك إبعادَ هذه الاستحقاقات عن أيّ ضغوط أو صرفِ نفوذ سياسي أو عسكري أو أمني، بل وإبعاد هذه الاسلاك نفسِها عن أن تكون طرفاً فيها لمصلحة فريق ضد آخر.
فلبنان كان ولا يزال مِن هذا الشرق الذي لم تستوِ فيه الممارسة الديموقراطية بعد كما في الأنظمة الديموقراطية العالمية حيث لا مشكلة هناك في مشاركة الأمن والعسكر في الانتخابات أياً كان نوعها رئاسيةً أو نيابية أو مشيَخية…
لا شكوى ظاهرة من أيّ جهاز أمني حتى الآن في موسم الانتخابات النيابية الحالي سوى من جهاز أمن الدولة، فهذا الجهاز الذي أريدَ مِن إنشائه يوماً تحقيق توازنٍ معيّن في توزيعة الاجهزة الامنية طائفياً وسياسياً، وضِع تحت وصاية رئاسة الحكومة وليس تابعاً لوزارة الداخلية كمديريتَي الامن الداخلي والامن العام وغيرهما.
الشكاوى من هذا الجهاز تتعاظم، وإذا كان رئيس الحكومة سعد الحريري يَدري “فتلك مصيبة” وإذا كان لا يدري “فالمصيبة أعظم”. لأنّ اعمال ونِتاج هذا الجهاز تُستثمر لدى رئاسة الجمهورية. والسؤال هل إنّ هذا الجهاز بات يأتمر ببعبدا بدلاً من السراي الحكومي، أم أنّ الائتمار ببعبدا إنّما يتم بموجب اتّفاق ضمني بينها وبين السراي انسجاماً مع روحية التحالف السياسي ـ الانتخابي القائم بين “التيار الوطني الحر” وتيار “المستقبل”؟.
وأبرز الشكاوى من هذا الجهاز أنه يتدخّل في شؤون الانتخابات، ممارساً ضغوطاً هنا وترهيباً وترغيباً هناك، في دائرة المتن الشمالي كما في دوائر كثيرة، ما يزيد من الأسئلة المطروحة حول مدى النزاهة والشفافية والحرية والعدالة التي يُفترض ان تتميّز بها الانتخابات، خصوصاً انّها تجري هذه المرّة وفق قانون الانتخاب النسبي الذي أريدَ منه تحقيقُ “عدالة التمثيل وشموليته لشتّى فئات الشعب اللبناني وأجياله في مجلس النواب، حسبما يقتضي “اتفاق الطائف”.
وفي هذا السياق استوقف المراقبين ما وَرد على صفحة “محبّو اللواء طوني صليبا مدير عام أمن الدولة” من إعلان دعوة تضمَّن الآتي:
“يستقبل المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا المهنّئين بعِيد الفصح في دارته ببتغرين يوم الأحد الواقع فيه 15 نيسان 2018 من الساعة 11 صباحاً وحتى بعد الظهر. المسيح قام حقاً قام، ونحن شهود على قيامته”؟
هذا الإعلان ـ الدعوة دفعَ هؤلاء المراقبين الى توجيه رسالة الى رئيس الحكومة سعد الحريري كونه سلطة الوصاية على جهاز أمن الدولة ليسأله:
منذ متى يا دولة الرئيس ينبري رؤساء الأجهزة الى الإعلان على قبول التهاني بالأعياد، وكأنّ المراد منها الردّ على استقبالات آخرين، وتنصيب أنفسِهم مرجعيات وحيثيات يدركون مسبقاً أنّها ليست سوى أوهام ونسيج في الهواء، علماً أنّ تقبّلَ هذه التهاني في حالة دعوةِ اللواء صليبا الى تقبّلِها، قد فاتَ موعدُه بعد مرور ثلاثة اسابيع على عيد الفصح عند الطوائف المسيحية التي تعتمد التقويم الغربي.
ولماذا هذه العراضات والاستقبالات غير البريئة وغير المسبوقة في خضمّ المواسم الانتخابية وكأنّ قادة الأجهزة مرشّحون للانتخابات أو يريدون منها ترغيبَ المهنئين واستمالتهم للتصويت للوائح ومرشّحين يدينون لهم بالولاء أو لممارسة كيدية ضد لوائح ومرشّحين آخرين؟ وماذا يا دولة الرئيس لو حصَل في بتغرين أيُّ إشكال أمني على خلفية إشكال سابق حصَل قبل سنوات وسقط فيه جرحى بسبب تدخّلِ عناصر تابعين لأمن الدولة كانوا يومها بأمرةِ صليبا واستُقدموا من البقاع؟
ويضيف المراقبون متوجّهبن إلى الحريري قائلين: “كنّا ننتظر يا دولة الرئيس ان يتمّ التحقيق مع جهاز أمن الدولة لكشفِ أبعاد وخلفيات التحقيق الوهمي الذي أجريَ مع الفنان زياد عيتاني وأودِع على أساسه في السجن بضعة أشهرٍ بتهمة العمالة لإسرائيل ليفرَج عنه قبل اسابيع على اساس انّ التحقيق القضائي اثبتَ براءة هذا العيتاني الذي لم يتردّد بعد إطلاقه في الكشفِ عن أنه تعرّضَ لتعذيب وتهديد حتى تمّ انتزاع اعترافات منه تبيّن أنّه أدلى بها تحت الضغط والتهديد والتعذيب والإكراه”.
ويَخلص المراقبون: “أنّ بعض الممارسات يا دولة الرئيس تُحوّل لبنان شيئاً فشيئاً “جمهورية موز” وفي هذه الحال لا داعي للانتخابات ولا للّعبةِ ديموقراطية ولا لتداوُلِ السلطة، وليتمَّ تعيين النواب بلا ترشيح مسبَق إذا كان المراد جعل البلدِ نهباً لمن يستغلّون السلطة ويصرفون النفوذ ويزوّرون إرادة ناسِه ويعيثون فيه فساداً؟