عندما يُنشَرُ هذا المقال قد تكون الضربة الأميركية لنظام الأسد بسبب كيماوي دوما قد وقعت. لكن تبقى هناك أمور غير مفهومة لدى سائر الأطراف وأولها النظام السوري. فمدينة دوما المنكوبة والمحاصرة منذ سنوات تُعتبر ساقطةً عسكرياً. والمفاوضات بين الروس وقيادات «جيش الإسلام» متواصلة، ووصلت إلى البدء بإخراج المسلحين وعائلاتهم من دوما إلى أقاصي شمال سوريا، إلى جرابلس التي تسيطر عليها تركيا بعد أن حررتها من «داعش».
والأتراك مسرورون بذلك، لأنهم يستقبلون قوةً قتاليةً معتبرة هم محتاجون إليها لمسْك الأرض في المناطق الشاسعة التي يسيطرون عليها، ولا تكفي فيها فصائل «الجيش الحر» التي ترافق الجيش التركي في توغلاته. فما الحاجة للبراميل المتفجرة والكيماوي، ما دام متاحاً لقوات النظام الدخول من دون قتالٍ أخيراً، وبضمانات الروس؟!
لا يستطيع المراقبون أن يفكّروا إلاّ في احتمالٍ واحدٍ ووحيد هو إرعاب المدنيين وإرغامهم على الهجرة من أرضهم من أجل التغيير الديموغرافي الجاري منذ سنوات من حلب وحمص وإلى القلمون والغوطة. ففي مناطق الغوطة الشرقية الأخرى التي دخلتْها قوات النظام ترافقها الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة، وفيها بقية من المدنيين، يجري إرغام الباقين على المغادرة، ونهب بيوتهم وجرفها بحضورهم! ولا شكّ أنّ الإيرانيين موافقون، بل ربما كانوا هم صُنّاع هذه السياسة.
وقد أخبرني أحد السوريين الذين أتوا حديثاً إلى لبنان من القلمون أنّ واحداً من «حزب الله»، وآخر من ميليشيا عراقية أتوا إليهم ونصحوهم بالمغادرة لأن قراهم ستتعرض للقصف، مع أنّ بينها وبين النظام هدنة منذ أكثر من سنة. وإذا كان الأمر كذلك عند ميليشيات النظام، والميليشيات الإيرانية، فما هي دوافع الروس، أو لماذا يسمحون بذلك؟ فالروس هم الذين يقودون المفاوضات، ويريدون إدخال شرطة عسكرية روسية في الأيام الأولى لتأمين المدنيين وطمأنتهم؛ فهل فعل ذلك النظام رغماً عنهم؟ هذا غير مرجَّح. فهل فعلها من دون علمهم؟ هذا غير مرجَّحٍ أيضاً، لأنهم موجودون في كل أنحاء الغوطة، وقد زعم الناطق الروسي أنهم دخلوا إلى دوما، ولم يعثروا على أثرٍ للكيماوي! وقد تحمس الروس وردّوا على ترمب بأنّ ردة فعلهم ستكون قاسية إن وقع الهجوم. وكانوا يرفضون دخول مفتشين دوليين إلى دوما، وهم يقولون الآن إنهم موافقون تماماً على ذلك!
لماذا تحمس الأميركيون أو بالأحرى الرئيس ترمب للقيام بضربةٍ أو ضربات، وقد صرح من قبل أنه يريد الخروج من سوريا سريعاً جداً، ويترك للآخرين أمر متابعة الملف. لقد ظننا أنّ الآخرين هم الروس، لكنّ الأوروبيين وبخاصة فرنسا وبريطانيا والآن ألمانيا أيضاً أظهروا حماساً للضربة، وكان الفرنسيون قد قالوا إنهم يساعدون الأكراد في منبج في وجه تركيا. وهذا كله معناه أنهم جميعاً لا يريدون الخروج من سوريا مهما كلف الأمر. وما تدخلت إسرائيل بسوريا جواً من أكثر من شهر، لكنها الآن قصفت مطاراً عسكرياً بجوار دمشق. وأتت طائراتها من طريق لبنان. وكان استنتاج خبراء النظام الأفذاذ أنه لا بد من العودة لدخول لبنان وضرب إسرائيل منه: فلماذا أنتم مضطرون لضرب إسرائيل من لبنان وعندكم إسرائيل كلها في سوريا؟!
إنّ منطق الرئيس ترمب أننا ضربناكم بعد كيماوي خان شيخون، حتى لا تعودوا إلى ذلك، ولتعرفوا أننا لسنا مثل أوباما، وصحيح أن الضربة لم تؤثر عليكم كما يبدو، لكننا سنعود لضربكم ما دمتم قد استخدمتم الكيماوي من جديد، ولم تأبهوا لوعيدنا وتهديدنا. وكما يبدو الرئيس الأميركي جدياً، فإنّ الفرنسيين والإنجليز والألمان، يشاركونه حماسه وسخطه هذه المرة، وتقول وسائل إعلامهم إنهم قد يشاركون في الضربة! هل يعود ذلك إلى ضرورة الحفاظ على الصدقية، أم لأن النزاع مع الروس والإيرانيين يتزايد، وما عادت روسيا لتأبه لشيء، وهم يريدون تلقينها درساً لا ينبغي أن تنساه. هل قرروا فجأةً إسقاط النظام؟ إسرائيل تنفي ذلك، لكنها لا تريد أن تحلّ إيران على حدودها في سوريا أيضاً. ومع ذلك كله فإنّ الحماس الأميركي والأوروبي الزائد يظل غير مفهومٍ تماماً، لأن الضربة أو الضربات إن وقعت فلن تؤثر على مصائر النظام! إنما الواضح أن الجميع يريدون التأكيد على عدم الخروج الغربي من سوريا، ما دام الإيرانيون والأتراك موجودين فيها، وما دام الروس لا يُصغون إليهم ولا إلى دي ميستورا بشأن الحل السياسي في جنيف، ويتحدثون دائماً عن آستانة وسوتشي وأضرابهما!
كيف تكون سوريا والمنطقة بعد الضربة إن وقعت؟ هل يمكن أن تتحول الحرب الصغيرة إلى حربٍ كبيرة إذا ردت روسيا، أو إذا سارع نصر الله إلى ضرب إسرائيل بالصواريخ، كما هدد عشرات المرات؟ إذا حصل ذلك فإنّ الحرب الصغيرة ستتحول إلى حرب كبيرة، وبخاصة أنّ الموقف حتى الآن كان: أميركا تمنع إسرائيل، وروسيا تمنع إيران، خوفاً من الحرب الكبيرة المحرجة للجبارين بشدة، مع استحالة وقوع الصدام بينهما.
صارت سوريا إذن ساحةً لصراعٍ إقليمي وآخر دولي. وكان يمكن إنهاء النزاع منذ عام 2013، والذي أبقاه الدخول الإيراني، وقدرة النظام والحق يقال، على الاستمرار، وتجرؤه على ارتكاب كل المحرمات دونما خشيةٍ من حسابٍ أو عقاب. لقد كان بوسعه بعد ترجيح كفته بالتدخل الروسي، أن يُنهي معظم جهات الاضطراب بالتفاوُض والمصالحات. لكنه لم يفعل لأنه والإيرانيين أرادوا تغيير وجه سوريا إلى الأبد!
مرت قبل شهور ذكرى مرور مائة عام على اتفاقية «سايكس - بيكو» عام 1917 بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة بعد خروج العثمانيين منها. وقد ألغى هذان الطرفان المنتصران في الحرب بطرائق التقسيم كل وجودٍ للانتماء العربي، ساعة لحساب الصهاينة، وساعة لحساب المسيحيين، وساعة لحساب المناطق الحاجزة مثل حالة العراق والأردن. وما وجدوا حيلةً في سوريا بعد الفشل في تقسيمها، وبعد اقتطاع أجزاء لصالح تركيا وإسرائيل المستقبلية ولبنان المسيحي منها. ظلت سوريا المتصاغرة هي حصة العرب من «طبخة البحص» كلها. ولأنّ الإقليميين وبعض الدوليين أرادوا الخلاص من عروبة سوريا لكي يصبح الشرق الأوسط كاسمه؛ وقد وجدوا ضالتهم في بشار الأسد، في فترة ضعفٍ عربي مشهود، فإنّ حرب سوريا طالت إلى سبع سنواتٍ ونيف، تهجر خلالها ثلث سكانها، و قُتل منهم أكثر من نصف مليون، وخربت نسبة 40 في المائة من عمرانها، لكنّ الباقين من العرب السنة ظل عددهم 60 في المائة من الموجودين على الأرض السورية، ولذلك صار لا بد من تكرار استعمال الكيماوي، لكي يمكن تحقيق: الحل النهائي (!). وقد لا يقبل كثيرون هذا الاستنتاج، لكن ليقل لنا أحد: إذا لم يكن ذلك صحيحاً، فلماذا الكيماوي والبراميل المتفجرة على دوما المستباحة؟! وهل تُوقف الحرب الصغيرة أو الكبيرة القتل والتهجير والانسدادات؟ لا تفعل الحروب ذلك عادةً، وكل الجمال بتعارك إلاّ جَملْنا بارِكَ!