حتى الآن كانت السياسة الخارجية الأميركية تتأثر بشكل رئيسي بفريق محيط بالرئيس دونالد ترامب مؤلّف من وزير خارجيته ريكس تيلرسون والجنرالات الثلاثة ـ الذين كان ترامب يشير إليهم بإعجاب بـ«جنرالاتي» ـ أي جون كيلي رئيس موظفي البيت الأبيض، وجيمس ماتيس وزير الدفاع، وهربرت مكماستر مستشار الأمن القومي. تيلرسون أقيل من منصبه مؤخراً، وتبعه مكماستر، ويقال إنّ إقالة كيلي لن تطول كثيراً.
يعتبر المراقبون أنّ هذه التغييرات هي مقدمة لتغيير في السياسة الخارجية الأميركية. فالفريق الجديد، وطليعته مايك بومبيو، وزير الخارجية (بعد تثبيته من قبل مجلس الشيوخ هذا الشهر)، وجون بولتون، مستشار الأمن القومي (لا يخضع للتثبيت)، يأتي في ظل سحب متبادل لديبلوماسيين أميركيين وروس، وقبل حدثين ذات أهمية كبيرة لأميركا والعالم: الاجتماع المنتظر بين ترامب وكيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية من جهة، وقرار ترامب في أيار حول تجديد الاتفاق النووي الإيراني أو عدمه.
المستشاران الجديدان هما من صقور الصقور، وخصوصاً بولتون. كلاهما يريد مواجهة روسيا (ترامب من جهته يرفض حتى اليوم معاداة بوتين شخصياً) ولكنهما متفقان مع ترامب على مواجهة ساخنة مع كوريا الشمالية، وخصوصاً مع إيران. بالنسبة للأولى فهما من المشككين في نجاعة الاجتماع بين ترامب وكيم جونغ أون، ولكن بما أنه أصبح مقرراً مبدئياً، فبرأي بولتون يجب أن يكون مختصراً جداً حيث يقول ترامب لكيم جونغ أون: «قل لي إنك بدأت بالتخلّص من سلاحك وبرنامجك النوويين لأننا لن نقبل بمفاوضات طويلة. عليك الإجابة الآن وإلّا فإننا سنفكر بشيء آخر». وكان بولتون قد أعلن سابقاً أن لا حل لمشكلتي كوريا الشمالية سوى تغيير النظام فيهما بدءاً بضربة استباقية قاضية.
بالنسبة للشرق الأوسط وخصوصاً سوريا، يتفق المسؤولون السابقون والجدد، كما الإدارة الأميركية والكونغرس بشكل عام، على أنّ المشكلة الأساسية في المنطقة سببها الرئيسي هو تدخّل إيران بأمور دول الجوار من خلال الميليشيات التابعة لها، إضافة إلى التدخل المباشر من قبل الحرس الثوري.
ولذا، فهناك توافق داخل المنظومة السياسية الأميركية على ضرورة تحييد إيران قبل الوصول إلى حل للحرب القائمة في بعض دول المنطقة، والتوتر القائم في البعض الآخر، واستبدالها بتحالف سني تقوده المملكة العربية السعودية بمساندة مصر ودول الخليج.
ما يختلف عليه الفريقان هو على كيفية الوصول إلى هذا الهدف. فالفريق المنتهية ولايته كان يصرّ على عدم المساس بالاتفاق النووي ومحاولة معالجته لربما بعقوبات جديدة، أو ببعض التعديلات المقبولة من الطرفين، يسانده في هذا الموقف الأوروبيون وقسم كبير من المنظومة السياسية الأميركية.
بومبيو وبولتون يريدان تغيير النظام في إيران ويعتقدان أنّ هذا الأمر شرط أساسي لحل حروب المنطقة. بومبيو، الآتي من رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، يعتقد أنّ الطريقة المثلى لعمل كهذا هي في استعمال المخابرات داخل إيران، كما فعلت بنجاح في ترتيب الانقلاب على رئيس الوزراء السابق محمد مصدق سنة 1953 وإعادة الشاه إلى الحكم، بينما موقف بولتون هو أقل تعقيداً، أي القيام بضربة جوية قاضية على طهران.
في هذا الجو، ساد المراقبون تخوّف كبير بأنّ المرحلة القادمة في سوريا ستكون مرحلة مواجهة عسكرية بين أميركا وإيران قد تتطور إلى حرب إقليمية تتدخل فيها إسرائيل، ولربما أيضاً روسيا.
وخلال خطاب ألقاه في ولاية أوهايو حول إعادة إعمار البنية التحتية الأميركية، خرجَ ترامب عن النص المكتوب ليقول إنّ أميركا ستنسحب من سوريا في وقت قريب جداً. فاجأ هذا التصريح مسؤولي وزارة الخارجية والدفاع ووكالة الأمن القومي، وحتى مسؤولي البيت الأبيض، ما دفع إلى عقد اجتماع، خلال ساعات من كلام ترامب، لمجلس الأمن القومي الأميركي حيث أقنع المجتمعون ترامب بتأجيل الانسحاب حتى تنظيف جيوب داعش المتبقية، وتدريب القوى الموالية، وتأمين الاستقرار في المناطق المحررة. هذا يعني بالطبع أنّ شيئاً لم يتغير، وأنّ أميركا باقية في سوريا لمدة طويلة.
يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: هل ستنسحب أميركا من الاتفاق النووي في أيار القادم، عندما سيكون على ترامب إمّا تمديد المشاركة وإمّا الانسحاب؟
يتفق معظم المراقبين على أنّ الاتفاق سينهار إذا ما انسحبت أميركا منه. يقول المعلّق المعروف ديفيد سانجر في الـ«نيويورك تايمز» إنّ هذا سيجعل إيران تعود إلى تخصيب اليورانيوم لدرجة تسمح باستعماله لأغراض نووية، ما سيدفع إسرائيل، بمساندة أميركية، إلى ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، كما فعلت في العراق وسوريا من قبل. إذا صحّ كلام سانجر، فهذا قد يبشّر بحرب إقليمية لا بد وأن تصل شرارتها إلى لبنان، إمّا لأنّ «حزب الله» سيطلق صواريخه تجاه إسرائيل مساندة لإيران، وإمّا لأنّ إسرائيل ستوجّه ضربة استباقية لـ«حزب الله» في لبنان.
هذا السيناريو السوداوي مبالغ فيه، إذ ليس من المؤكد أنّ أميركا ستنسحب من الاتفاق النووي في أيار، ولو انّ وجود بومبيو وبولتون سيزيد من هذا الاحتمال. في الوقت ذاته هناك غالبية في الكونغرس لا تحبذ الانسحاب، كما أنه ما زال هناك أشخاص فاعلون داخل الإدارة الأميركية يدافعون عن هذا الموقف، على رأسهم وزير الدفاع ماتيس.
خارجيّاً يضغط الأوربيون لفصل الاتفاق عن مشكلة برنامج الصواريخ الإيرانية وفتح ملفات المنطقة، واعدين بفرض عقوبات على إيران لتحجيم برنامجها الصاروخي وإرغامها على التفاوض حول تدخّلها في شؤون جيرانها وإيقاف هذا التدخل، كما يريد ترامب.
حتى إسرائيل لا تريد انسحاب أميركا من الاتفاق بل تعديله، خوفاً من سيناريو شبيه بما نَبّه إليه سانجر. بالمقابل، حتى لو انسحبت أميركا من الاتفاق، فهذا لا يعني أنّ إيران ستباشر بالتخصيب المرتفع لأنّ روسيا والصين وأوروبا ستجد لها البديل، ولأنها لن تعطي أميركا وإسرائيل حجّة لضرب قدراتها النووية.
على كل حال، من المستبعد أن يُجرّ لبنان إلى هذا الصراع بشكل مباشر لأن لا أحد من الأفرقاء الإقليميين والدوليين الفاعلين له مصلحة في ذلك. فلبنان يحتضن اليوم أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين تخاف أوروبا انتقالهم إليها، كما أنّ الصراع الأميركي ـ الإيراني ساحته حتى الآن سوريا، ولربما العراق، وليس لبنان.
ولعل من اللافت في هذا الإطار أنّ في المواجهة بين إيران وإسرائيل التي ذهبت ضحيتها الطائرتان، الروسية والإسرائيلية، قامت الجهتان، وبسرعة فائقة، بالإعلان بأنهما لا تريدان التصعيد، وانتهت المباراة بالتعادل. أضف إلى ذلك أنّ كلفة حرب إقليمية تشمل لبنان ستكون كبيرة على كل المشاركين فيها، خصوصاً إيران و«حزب الله» وإسرائيل، وقد تتسبّب بمواجهة أميركية روسية لا تعرف عقباها، وهذا قد يكون بالفعل الرادع الأكبر لحرب إقليمية كهذه.
رياض طبارة