لا شيء يمنع المسؤولين اللبنانيين والطبقة السياسية الحاكمة من الحديث عن تحقيقها انجاز مؤتمر سيدر في باريس بما يتضمنه من قروض فاقت العشر مليارات دولار. في إمكان المسؤولين تجاوز الحديث أيضاً عن أخطار القروض الجديدة، وبينها الأكثر خطراً في ظل السياسة التي ترهن لبنان للخارج، ولا عن الشروط التي تطلب من لبنان الإيفاء بالتزاماته الإصلاحية وإدارة محفظة من القروض بهذا الحجم، خصوصا وان الادارة اللبنانية عاجزة عن ذلك، ولم تثبت للمجتمع الدولي قدرتها على الإصلاح بإجراءات أكثر شفافية.

يتصرف المسؤولون في لبنان أيضاً وكأن البلد مفلس فعلاً. لا شيء يمنعهم من الاستمرار في السياسة نفسها بعد مؤتمر دولي قد تكون نتائجه عنواناً للانتخابات النيابية أو جزءاً من المعركة السياسية التي انصرفت اليها الطبقة السياسية وأهل السلطة والطوائف، غير مكترثين للأخطار التي تهدد البلد. وبينما الانتخابات تدق الأبواب، تأخذ المواجهة بين القوى الممسكة بالسلطة أبعاداً مختلفة، سنكتشف أن أحد محاورها قروض سيدر وتبعاته وملاحقه، وفق شخصية سياسية ترى أن البداية كانت من القرارات الحكومية والمشاريع التي أقرها مجلس النواب وآخرها قانون الموازنة 2018 الذي أقر وكأن البلد مفلساً. لذا لم يتوقف البعض مثلاً عند المادة 50 من القانون التي تمنح كل عربي وأجنبي يشتري وحدة سكنية في لبنان إقامة دائمة، وإن جرى ربطها بالملكية. فهذه المادة التي بررها المعنيون بأن دولاً كثيرة تتخذ اجراءات من هذا النوع لتنمية اقتصادها، إلا أنها مادة خطرة تدل على أن البلد وكأنه شارف الإنهيار ويحتاج الى ضخ الأموال في اقتصاده كيفما كان، من دون الاخذ بالاعتبار أن الدول التي تتخذ مثل هذا القرار بلا ضوابط تعرض بلداً مثل لبنان الى مشكلات وفقاعات لن يتمكن عندها اللبناني من منافسة الأجنبي أو العربي أو الخليجي من شراء شقة سكنية أو عقار، حتى ان اليونان “المفلسة” عندما اتخذت إجراءً من هذا النوع اشترطت منح تأشيرة الإقامة لخمس سنوات لدى شراء عقارات سكنية أو تجارية، إضافة إلى إمكان منح تصاريح الإقامة في حال توقيع عقد إيجار لـ 10 سنوات. وهناك دول أخرى سهلت تملك الأجانب بمنح تاشيرات لمدة سنة من دون أن تكون الإقامة الدائمة جزءاً منها.

تقرر السلطة إجراءات لتأتي الاموال إلى لبنان وإن كانت مشروطة، لكنها ستكون بتصرف الطبقة السياسية التي لم تستطع حل المشكلات التي عاناها اللبنانيون في مختلف المجالات، لا بل أن السلطة الطائفية الحاكمة أنتجت المزيد من الأزمات وكرّست استعصاءات بات يستحيل معها بلورة خطط تساهم في النهوض بالبلد. وها هو لبنان منذ سنوات يخسر المزيد بحيث رتبت السياسات الحاكمة أعباء كبيرة ولم تستطع السلطة اطلاق اي مشروع حيوي في البنية التحتية والمياه والكهرباء ولا أي حل لمشكلة النفايات، وهي ملفات رفعها لبنان الى مؤتمر سيدر، فمن يدير القروض الجديدة في مشاريع النهوض بالاقتصاد اللبناني؟ ذلك السؤال سيطرح، وفق السياسي، بعد الانتخابات النيابية، طالما أن القروض الميسرة التي أغدقها المجتمع الدولي على لبنان ضمن برنامج الاستثمار ستتدفق مع تشكيل الحكومة الجديدة ومجلس النواب المنتخب، فيما القوى السياسية والطائفية الحاكمة حالياً ستعود بأسماء مختلفة الى الحكم، وهي المسؤولة عن وصول البلد الى ما هو عليه، إذ لا يستطيع اي طرف سياسي وطائفي إعفاء نفسه من المسؤولية عن الإنهيار الذي يعيشه البلد وعن الإفلاس السياسي والمالي الذي رتب على لبنان إلى اليوم نحو 80 مليار دولار من الديون وأخذ البلد رهينة لكل المشاريع الاقليمية والمحلية بفئويتها ومصالحها الضيقة.

ليست المرة الأولى التي يدعم فيها المجتمع الدولي لبنان، وإن كانت الظروف السابقة مختلفة. إنما اليوم تبدو المشكلة وفق السياسي أكثر وضوحاً، فأخطر القروض في تاريخ لبنان هي التي سترفع الدين العام الى مستويات قياسية، فيما أمام لبنان مستحقات مالية للسنة 2018 تفوق السبع مليارات دولار، وهو إن كان مجبراً على إعادة هيكلة الدين، إنما سيواجه المزيد من الاعباء التي لن تقف تأثيراتها عند حدود معينة بل ستطال بنية البلد ومستقبله. فليس تفصيلاً أن يقرر البنك الدولي منح لبنان سلة قروض بـ4 مليارات دولار، وصناديق أخرى ومؤسسات ودول تراوح قروضها على خمس و6 سنوات بين 300 مليون دولار ومليارا ونصف المليار دولار، وهذه القروض المشروطة التي لا تتضمن هبات ولا مساعدات مجانية سترفع المديونية الى حدود قصوى، فكيف سيكون الوضع اذا لم يتمكن البلد من النهوض وإعادة تأهيل قطاعاته ومرافقه وبنيته التحتية وجذب الاستثمارات. هي تجربة لم تكن ناجحة سابقاً وفق السياسي اللبناني، لذا تسعى القوى السياسية والطائفية التي تقاسمت البلد عبر المحاصصة الى تثبيت موقعها في الانتخابات
النيابية واستخدام كل الأسلحة المتاحة من استثارة الغرائز واستنفار العصبيات للفوز بأكبر عدد من المقاعد وجبه كل اعتراض ديموقراطي يطالب بالتغيير.

ليس الأمر التزاماً سياسيا للبنان أمام المجتمع الدولي، فالقرار في البلد يتخذ حالياً من خارج السلطات التشريعية والتنفيذية، تقرره القوى الحاكمة مشتركة في إدارة البلد. أما المشكلة، فليست أن يتقرر اليوم أو غداً فرض ضرائب، بل في طريقة إدارة البلد من الطبقة السياسية مجتمعة، وهي غير قادرة فعلاً على السير بالاصلاحات ومواكبة الاستثمارات والمشاريع التي يتعين تنفيذها.

يبقى السؤال أمام القروض مشروطة، عن كيفية إلتزام لبنان تعهّداته وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المُطالب بها، وكيف سيكون مثلاً إصلاح قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، وماذا عن سير الخطة الاستثمارية، وهل من خطط لاعادة النظر بالنظام التقاعدي لموظفي القطاع العام، وكيف سيكون الالتزام بتنفيذ تدابير تعزّز الشفافية والمساءلة، والأهم كيفية ضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي واعادة التوازن للمالية العامة واجراء اصلاحات هيكلية وقطاعية لجذب استثمارات جديدة وارساء بنى تحتية حديثة واستراتيجية، ثم إعادة هيكلة الدين العام ومواجهة الاستحقاقات. يختم السياسي بشكوك كبيرة حول قدرة الطبقة السياسية على السير بشفافية في هذه المشاريع، لذا ستحاول تكريس موقعها مجدداً من خلال الانتخابات لتتصرف على طريقتها في إدارة الأموال التي ستحمل اللبنانيين مزيداً من الأخطار على طريق الإفلاس.