هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران مع انتهاء مهلة حددها للأوروبيين من أجل تشديد بنوده. وتشي التطورات في هذا الاتفاق، كما في الملفات الأخرى التي لها علاقة بإيران وما يجري في منطقة الشرق الأوسط، بأن الموقف سيخصم كثيرا من رصيد طهران بما قد ينتهي بها معزولة مرة أخرى، في ظرف مختلف عن عزلة السنوات الماضية، حيث الغضب الشعبي قد يزلزل كامل أركان النظام.
وبدا القلق من كل هذه السيناريوهات القاتمة واضحا في حديث الرئيس الإيراني حسن روحاني، وهو يوجه رسالة إلى نظيره الأميركي، في خطاب ألقاه بمناسبة اليوم الوطني للتكنولوجيا النووية، حذره فيها من أنه “سيندم إذا انسحب من الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية” وأن “رد طهران سيكون أقوى مما يتخيل”.
فشلت محاولات استعراض القوة التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني بمناسبة اليوم الوطني للتكنولوجيا النووية في أن تخفي قلقا إيرانيا متصاعدا من المتغيرات الإقليمية والدولية والمفاجآت التي تصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتغييراته المتواصلة لحكومته، والتي أضحت أشبه بإستراتيجية أكثر منه تخبطا في الإدارة الأميركية، كلما استأنست إيران بالوضع وبدأت تتأقلم معه يفاجئها ترامب بإقالة جديدة وتعيين مسؤول آخر أكثر عداء لإيران، على غرار تعيين جون بولتون مستشارا للأمن القومي خلفا لهربرت مكماستر، ومايك بومبيو خلفا لوزير الخارجية ريكس تيلرسون. وما يبعث على قلق إيران أن التعيين لهذين الصقرين المعروفين بتشددهما تجاه طهران يأتي قبيل موعد إعلان ترامب موقفه النهائي من الاتفاق النووي
تفضح هذه التصريحات وهنا إيرانيا مرده أن طهران باتت تميل إلى أن ترامب سيعلن في 12 مايو المقبل عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني الذي وقعته طهران مع مجموعة خمسة زائد واحد في عام 2015.
ستعود العقوبات الأميركية على إيران بعد أن جرى تخفيفها بموجب الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وذلك ما لم يقرر ترامب إعفاء إيران مجددا منها. وكانت إيران حذّرت من أنها ستسرع من وتيرة برنامجها النووي إذا انهار الاتفاق بهدف الوصول إلى مستوى متقدم عما كانت عليه قبل الاتفاق، لكن، ما تملكه طهران من معطيات لا يحمل حتى الآن أي إشارات تفيد بغير ذلك.
وكانت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى إيران في 6 مارس الماضي أفادت الجانب الإيراني بأن الاتحاد الأوروبي، لا سيما الدول الموقعة على الاتفاق النووي، تميل إلى وجهة نظر واشنطن لجهة ضرورة “إصلاح” الاتفاق النووي الذي سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن اعتبر أنه “لم يعد كافيا”.
وتسعى فرنسا وبريطانيا وألمانيا لإقناع شركائها الآخرين في الاتحاد الأوروبي بدعم فرض عقوبات جديدة على إيران كوسيلة لإقناع ترامب بالبقاء في الاتفاق النووي الذي حد من أنشطة إيران النووية مقابل تخفيف العقوبات عن كاهلها.
ولن تشمل هذه العقوبات الإجراءات التي تم تخفيفها بموجب الاتفاق النووي، لكنها ستستهدف أفرادا إيرانيين يعتقد الاتحاد الأوروبي أنهم يقفون وراء برنامج الأسلحة الباليستية الإيراني ودعم إيران للرئيس السوري بشار الأسد.
قوة من ورق
قال روحاني، في كلمة نقلها التلفزيون الرسمي “يحاول الرئيس الأميركي، الذي يطلق المزاعم وتتسم تصريحاته ومواقفه بالتقلب، منذ 15 شهرا كسر الاتفاق النووي، لكن أساس الاتفاق متين لدرجة أنه لم يتأثر بمثل هذه الهزات”.
وأضاف “إيران لن تنتهك الاتفاق النووي لكن إذا انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق فستندم بالتأكيد. ردنا سيكون أقوى مما يتخيلون وسيرون ذلك في غضون أسبوع”.
وعرض التلفزيون الرسمي الإيراني، إلى جانب كلمة الرئيس روحاني، مشاهد لأحدث إنجازات نووية تحققها إيران ومن بينها بطارية نووية وأجهزة طرد مركزي لصناعة النفط. لكن، بات الإيرانيون في الداخل يثقون في الخارج أكثر من نظامهم، ولم تعد تعنيهم كثيرا إنجازات بلادهم النووية فيما بطونهم خاوية وحرياتهم مقموعة.
وتملك العواصم الدولية معطيات دقيقة عن المستويات التي تصل إليها إيران في مسألة تطوير البنى النووية، وتعرف أن طهران تسعى إلى استخدام سياسة التهويل التي لطالما لجأت إليها في محاولة لإقناع الرأي العام الداخلي بمناعة إيران حيال الضغوط الدولية.
وقال روحاني، الذي كانت رسالته مزدوجة العنوان، تستهدف ترامب، لكنها تستهدف أيضا الاقتراب من الخطاب المتشدد للمرشد علي خامنئي وجنرالات الحرس الثوري، إن إيران تستعد لكل السيناريوهات المحتملة بما في ذلك إما بقاء الاتفاق النووي دون الولايات المتحدة أي مع الموقعين الأوروبيين والصين وروسيا وإما لا اتفاق على الإطلاق.
ورأت مصادر دبلوماسية أوروبية أن طهران قلقة من مستقبل موقعها الإقليمي إذا ما انهار الاتفاق النووي، كما أنها قلقة لجهلها بالخطط التي سيكشفها الغرب برمته إذا ما قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، وأن هذه الضبابية في الموقف الدولي تربك صانع القرار في إيران وتدفعه إلى إطلاق تصريحات شعبوية مهددة لا يمكنها إحداث أي تغيير في التحولات الدولية الجارية ضد إيران.
وبدا واضحا ارتفاع حدة التصريحات في نبرة الرئيس الإيراني، مقارنة بتصريحاته وتهديداته السابقة بالانسحاب من الاتفاق النووي، ما يعني أن إيران ليست بتلك القوة التي تسعى إلى الظهور بها، بل بقدر ما ازدادت حدة التصريحات عكس ذلك قلقا.
ومن بين أسباب حدة التصريحات الأخيرة لروحاني الزيارة التي قام بها وزير الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي إلى طهران في 16 مارس الماضي. لم تكن زيارة بن علوي تحمل وساطة تقوم بها مسقط بين واشنطن وطهران، كما جرى من قبل مع الاتفاق النووي، بل تبليغا للقيادة الإيرانية بالأجواء السلبية داخل الإدارة الأميركية ضد الاتفاق النووي والسلوك الإيراني في المنطقة.
وكان لافتا أن زيارة الوزير العماني لطهران جاءت بعد أيام على زيارة قام بها وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في 16 مارس إلى مسقط، بحيث لم يكن من بد إلا ربط محادثات الوزير الأميركي مع القيادة العمانية، لا سيما مع السلطان قابوس بن سعيد، بزيارة بن علوي اللاحقة إلى طهران.
الضبابية في الموقف الدولي تربك صانع القرار في إيران وتدفعه إلى إطلاق تصريحات شعبوية مهددة لا يمكنها إحداث أي تغيير
وتسعى طهران للحفاظ على بنود الاتفاق النووي دون أي تعديل ودون ملاحق إضافية، كما تحاول تجنيب برنامجها للصواريخ الباليستية أي عوائق دولية مكررة أن طابعه غير هجومي. وقال روحاني إن قدرات إيران الصاروخية دفاعية بحتة. وأضاف “سننتج أي أسلحة لازمة للدفاع عن بلادنا في مثل هذه المنطقة المضطربة، لكننا لن نستخدم أسلحتنا ضد جيراننا”.
الدائرة تضيق
تقلل التطورات في الموقف الدولي من أهمية التصريحات التي أدلى بها الرئيس كما تلك التي يطلقها مسؤولون إيرانيون آخرون. ويتضح، بالنظر إلى الأوضاع المحتقنة في الداخل مع المتغيرات الإقليمية والدولية، أن طهران لا تملك ترف الحديث عن خيارات في مقاربتها للمجتمع الدولي.
وتراجع الأداء الاقتصادي لإيران كما انتشار المظاهرات المطلبية والسياسية التي تتصاعد وتخبو في مناطق عديدة من إيران منذ تلك التي انتشرت داخل أكثر من 100 مدينة ابتداء من شهر ديسمبر الماضي كان آخرها تلك المندلعة في محافظة الأحواز.
ورغم أن مواقف طهران تتراوح ما بين الانسحاب من الاتفاق أو البقاء داخله مع بقية الدول الخمس الموقعة، فإن بعض الأوساط الإيرانية المراقبة تعتقد أن طهران ستسعى إلى اعتماد دبلوماسية يراد منها تقديم نفسها بصفتها دولة ملتزمة بالاتفاقات الدولية وستسعى إلى محاولة تفعيل الاتفاق دون الولايات المتحدة.
ولا يبدو هذا الأمر قابلا للتحقيق، لأن خروج الأميركيين من الاتفاق يفرغه من مضمونه، وتذكر بأن الاتفاق الدولي جاء تتويجا لاتفاق جرى عمليا بين إيران والولايات المتحدة من خلال محادثات سرية استضافتها العاصمة العمانية بين الطرفين، وأن انهيار الاتفاق الإيراني الأميركي يقود آليا إلى انهياره دوليا.
لكن، سعي الأوروبيين لإنقاذ الاتفاق ينبع من قاعدة أن لا اتفاق دون الولايات المتحدة، وأن العقوبات الأميركية ضد طهران ستطال أي شركات دولية تتعامل مع إيران، وأن لا مصلحة للشركات الأوروبية في أن تفقد السوق الأميركية والشراكة مع الولايات المتحدة مقابل تلك مع إيران. وتملك واشنطن النفوذ الذي سيمنع من ربط الشبكات المالية والمصرفية الإيرانية مع الشبكات الدولية.