حصلت الانتخابات المصرية بإقبال وطني معتبر للمقترعين، ونجاح كاسح للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، أعقبه احتفال عام بحصول الحدث الانتخابي بسلاسة، واستمرارية لمشاريع النهضة والإصلاح الداخليين الذين شرع السيسي في إطلاقهما، إضافة إلى مناخ الاستقرار السياسي والأمني الذي عم مصر بعد القضاء على حكم الإخوان المسلمين وحل تنظيمهم واعتبار عناصره خارجين على القانون.
لم ينل المشهد الإنتخابي لدى وسائل الإعلام الغربية التقدير الإيجابي الذي روجته أجهزة الإعلام المصري الرسمية. فالانتخابات بدت للمراقبين أقرب إلى استفتاء على التجديد للسيسي منه إلى منافسة فعلية وناشطة، خاصة وأن الشخصيات البارزة في مصر أعرضت عن الترشيح إما لضغوط قانونية أو سياسية أو عدم ثقتها بجدوى معركة محسومة النتائج سلفاً بسبب تحكم السلطة بوسائل الدعاية وعدم الشفافية الكافية للعملية الاتخابية.
انصب التقييم الغربي على المعايير والمؤشرات التي تجعل العملية الانتخابية ديمرقراطية، في حين أن أساس المشكلة هو ضعف أو هشاشة بل ربما انعدام الحياة السياسية في مصر، بعد ثورة انتزع فيها الشارع المصري المبادرة في صناعة واقعه ورفضه الوصاية عليه وأنعش الآمال بالتغيير باتجاه شروط حياة ضامنة للحقوق والأمن الحياتي. وهو ما يجعلنا نتسائل: هل نحن أمام ثورة غير منجزة لم تتعدى كونها قوة اندفاع اجتماعي (أو شعبي) كاسح لتغيير الواقع، ولم تنتقل بعد من حال المطلب والاحتجاج إلى حال المأسسة (Institutionalize) لتطلعاتها وأمالها الجديدتين، الذي لا يقتصر على تغيير منطلقات السلطة وإجراءاتها، بل يحدث تحويلاً في تكوين المجتمع نفسه وأطر علاقاته، وأعرافه ونظم قيمه.
السؤال الأصعب هنا لا يتعلق بنجاح أو إخفاق الثورة، بل يتعلق بحقيقة الثورة نفسها، وعما إذا كانت من الأساس قد حملت قيماً جديدة منافسة للقيم التقليدية السائدة في المجتمع، واعتمدت مرتكزات انتظام اجتماعي- سياسي مختلف عن الانتظام السائد تاريخياً في المجال العربي منذ تأسيسات الأحكام السلطانية للماوردي في القرن الخامس الهجري، والتي تقوم على سلطة المتغلب ذي الشوكة لضمان استقرار المجتمع وأمنه.
وهي تأسيسات أحدثت فجوة عميقة بين الدولة التي بقيت مشخصنة من جهة وبين المجتمع الذي لم يعد الشأن العام جزءً من ثقافته وتضامناته من جهة أخرى. كما أنها أحدثت تخارجا بين الحرية والدولة، لجهة أن الحرية باتت طريق الفوضى والإختلال والعشوائية للحياة والمجتمع. فلا يمكن للأمن أن يستقيم إلا بحرية واحدة هي حرية الرأس، حرية واحدة مطلقة فقط، ولا وجود لحريات أخرى. ولا مكان للإرادة الإنسانية الحرة إلا خارج النظام، التي هي أرض البداوة والتوحش والبدائية والتحلل الخلقي.
أصبح مفهومُ الحريةِ الأصليةِ منعدمٌ في السلطةِ لأن الدولةَ ملكٌ لعُصبةٍ حاكمةٍ ممثلةٍ في شخصِ الحاكم, يتصرف كيف يشاء. واقتصر العدلُ على المحافظةِ على الأمنِ وتنظيمِ تنازعِ الناسِ وتدافعهِم. بالتالي حصل تخارجٌ بين مفهوم الحريةِ ومفهوم ِالدولة، بين الدولة والقيمة الأخلاقية، بين التاريخ والحرية، بين قانون الجماعة ووجدان الفرد. فلم يعد بالإمكانِ تصورُّ الحريةِ في المجتمع العربي التقليدي إلا خارجَ الدولة أي في نطاق الطوبى، وبات الفرد لا يعرف الحريةَ إلا إذا خرجَ من الدولة أو انقلب عليها.
إقرأ أيضا : مؤتمر سيدر ١ يؤكّد الحقيقة المُفجِعة ... لبنان إقتصاديا كزيمبابوي
الذي حصل أن الثورات العربية تضمنت أخلاقيات وآمال، وبالغت في طرح ما يريده الشعب، من دون أن تستند إلى خلقيات انتظام جديد ومنطق علاقة مختلف بين الحاكم والمحكوم. أفاضت في محاكمة الواقع وإدانته ولم تعمد إلى فهمه والتعرف إلى مكوناته وبناه ودينامياته الخاصة، طالبت الواقع بنتائج قبل أن ندرس قابلياته وإمكاناته الذاتية لتحقيقها. بالغت في إدانة للسلطة وركزت على فشل الدولة وقدمت سرداً مفصلاً لمشاكلها وإخفاقاتها وانتهاكاتها، من دون النظر والتفكير في حقيقة الدولة وطبيعتها، ومقترحات جدية لأي إنتظام سياسي جديد أو أسس تضامن اجتماعي يزحزح القيم التقليدية الراسخة. أي تظاهرنا وشكوناكثيراً وفكرنا ونظرَّنا قليلاً.
هذا الأمر أعاد الواقع السياسي بعد نجاح الثورات العربية إلى صور الانتظام السابقة عليها، التي تخير المجتمع بين القيادة الكارزمية المطلقة الضامنة وحدها أمن المجتمع وتماسكه من جهة، وبين الوقوع في الفتن والفراغ من جهة أخرى. هي ثنائية جاءت الحركات الإسلامية، السلمية والجهادية منها على حد سواء، لتعززها وتقويها، بعدما تبين أن جميعها كانت مشاريع سلطة تقوم على البيعة ولم تكن يوما مشاريع دولة حديثة ذات أفق نهضوي، وتقتات على تناقضات الواقع وأزماته من دون أن يكون لديها شيئاً حقيقياً تقدمه لإدارة المجال العام سوى هوامات أيديولوجية رديئة.
وراء الإحتفالية المحلية بالانتخابات الرئاسية المصرية، وتقديرات المراقبين السلبية حول ديمقراطيتها، فإن التحدي الاساسي لحياة ما بعد الثورة المصرية، ليس في إثبات أصالة وطنية أو إشباع كبرياء قومي مبالغ به، وليس أيضاً في الاستجابة لشرط الديقراطية الغربية الجاهزة، بقدر ما هو في شكل الحياة الجديد والفريد الذي تحرص الثورة على تحقيقه ولو بعد حين.