ليست المرة الأولى التي يُعقد فيها مؤتمر دولي لتقديم مساعدات مالية لبنان ، فقد إعتاد اللبناني أن يسمع بمؤتمرات عالمية كمؤتمر باريس بنسخه الثلاثة ، ولم يتغير أي شيء على الأرض ، بل على العكس من ذلك تماما ، الأمور من سيّء إلى أسوأ إقتصاديا بالمقام الأول .
وإن كان اللبناني لا ينقصه الذكاء أو الخبرة في الحياة ، والنجاح حليفه الدائم أينما حلّ ، إلاّ أن تردّي الأوضاع الإقتصادية والمعيشية والإجتماعية والسياسية داخل أراضي الجمهورية اللبنانية ، تطرح ألف علامة إستفهام حول حقيقة ما يحصل ، وتقصير الدولة اللبنانية بكافة مكوناتها في إيجاد حلول جذرية للمشاكل الموجودة .
فالدولة بأجهزتها الحكومية والتشريعية لا تبادر إلى إستئصال المرض من أصله بل تكتفي بإعطاء جرعات تخدير لتخفيف الألم الحاصل ، وهي كل ٥ أو ١٠ سنوات تلجأ إلى المجتمع الدولي لطلب المعونة المالية لإنتشال الإقتصاد من حالة الركود .
مؤتمر " باريس ٤ " أو " سيدر ١ " جاء هو الآخر ليؤكّد الحقيقة المُفجِعة لواقع الهريان الإقتصادي في البلد ، فلبنان كبنية إقتصادية وسياسية لا يقلّ سوءا عن دولة أفريقية من أسوأ دول القارة السمراء في هكذا أصعد كدولة زيمبابوي.
لكن الطبقة السياسية في لبنان بشقيها الحاكم والمعارض يرفض الإعتراف بهذه الحقيقة لكي لا يتأثّر " البريستيج اللبناني " ، فتكتفي بطلب مساعدات مالية وصلت قيمتها في " سيدر ١ " لحدود ال ١٢ مليار $ على شكل قروض ميسّرة ومنح وهبات مالية.
إقرأ أيضا : مؤتمر سيدر ١ مرهون بالتزامات لبنان الدولية
والأسئلة الأساسية هنا ، كيف ستتعامل الحكومة مع هذه المبالغ ؟ وما هي الخطة الإقتصادية التي وضعتها للنهوض بالبلد إقتصاديا ؟ وهل ستختلف هذه الخطط عن الخطط السابقة ؟
لا نريد أن نوزِّع طاقة سلبية ومتشائمة حول مستقبل البلد الذي يتوقف على الإجابة عن هذه الأسئلة ، لكن للأسف لا بد من قول الحقيقة كما هي بشفافية من دون عمليات تجميل .
فالمؤشرات كلها تشير إلى غياب أي خطة إقتصادية واضحة أو إستراتيجية شاملة تلحظ معالجة المشاكل البنيوية للإقتصاد اللبناني أولا والتي هي بالمناسبة مشاكل عادية من المعيب أن لبنان لم يتخلّص منها حتى الآن ، كالبنية التحتية والمرافق العامة وخطة النقل العام والتحفيزات الضرائبية والكهرباء والإتصالات وغيرها ، وكلها عوامل لو إكتملت ستكون عامل جذب للإستثمارات وبالتالي لفرص العمل ما ينعكس إرتفاعا في الإنتاجية ومعدل النمو الإقتصادي، وتراجعا في معدلات الدين العام والبطالة.
وهذه الإستراتيجية الغائبة حتى الآن لا بدّ أن تركّز على الإصلاحات الإدارية والإقتصادية الكفيلة بوقف الهدر ومكافحة الفساد وترشيد الإنفاق.
وقد يتبادر إلى ذهن القارىء أن الحلول معروفة للمشاكل الإقتصادية ، فلماذا لا تُقدم عليها الدولة اللبنانية ؟
والجواب ، أنه على الرغم من تمتع لبنان بالبنية البشرية والفكرية والثقافية اللازمة لجعله من الدول المتطورة ، إلا أن الهيكلية السياسية المتمثّلة بالنظام السياسي وأدواته كالحكومة قاصرة عن أداء هذه المهمة لأنها تعتبر أن الفساد وما أنتجه من نظام الزبائنية في لبنان هو الوحيد المنقذ لها كأحزاب وقوى في الإستمرار بالحكم .
ويُضاف إلى هذا ، أن عقلية الطبقة الحاكمة هي طائفية ومناطقية لا مدنية ولا وطنية ، وهي تبغي إلى إعطاء تنفيعات لأزلامها على أساس نظام " الواسطة " الذي نسف مفهوم عمل إدارات الدولة والتراتبية.
وبالتالي ، الثقة معدومة بهذه الطبقة السياسية ، ومصير أموال " سيدر ١ " سيكون مصيرها المجهول ، لأنها ستُصرف بطريقة غير منظّمة وغير قائمة على أساس خطة واضحة وأهداف محدّدة وإستراتيجية شاملة.
ولا أمل في تحقيق أي نهضة إقتصادية ما لم تُغيّر هذه الطبقة السياسية طريقة تفكيرها لتقّرر مكافحة الفساد وإيقاف الهدر والتركيز على مفهوم المواطنة الحقيقة والدولة العادلة والقوية .
وعليه ، فإنّ ال ١٢ مليار $ سنرى أثرها في المستقبل المتوسط والقريب على شكل إرتفاع في الدين العام قد يلامس ال ١١٠ مليارات $ ، ولن نرى أثرها في أي نمو حقيقي قد يتحقّق للإقتصاد اللبناني.
وفي السياق نفسه ، يسأل خبراء إقتصاديون عن الحاجة لهكذا مؤتمرات والحل موجود بأيدي اللبنانيين ، فالدولة لو قررّت محاربة الفساد فإنها ستؤمّن ما بين ال ٦ إلى ٨ مليارات $ سنويا ، وهو مبلغ قريب من قيمة أموال مؤتمر " سيدر ١ " ، لكن في ظل دولة المزارع الطائفية تغيب الحلول الجدية وتتقدّم البدائل التي لا تبشّر إلاّ بما هو أسوأ.
إقرأ أيضا : بالصوت : كلام خطير جدا ! تسريب صوتي لمدقق في مؤتمر سيدر 1 حول لبنان
شهادة أحد المدققين في مؤتمر سيدر " ١"
مع إنعقاد مؤتمر " سيدر ١ " ، تسرّب تسجيل صوتي لأحد المدققين في المؤتمر يستعرض فيها شهادته عن الواقع الإقتصادي والسياسي في لبنان.
يقول هذا المدقق الذي عمل في أكثر من ٢٥ دولة أفريقية منها ساحل العاج ونيجيريا أنه " من العام ١٩٩٩ زوّدت لجنة مؤتمرات باريس وصندوق النقد الدولي الدولة اللبنانية بتقارير كاملة عن كيفية مواجهة الفساد والهدر وضرورة الإصلاح الإقتصادي والإداري " ويُضيف أن " تقصير الحكومة هو سرطان أدّى الى فساد غير مسبوق فلبنان اليوم يشبه زمبابوي وبتسوانا والخدمات الأساسية غير موجودة رغم أنها بحاجة إلى إصلاحات بسيطة من خلال تطبيق القوانين الموجودة أصلا رغم أن البنية الفكرية والثقافية في لبنان جيدة".
ويُؤكد أن " لبنان بحجم إقتصاد كميامي فيه ٣٠ وزيرا بينما روسيا فيها ١٣ توقيت لا يوجد فيها أكثر من ٩ وزراء" وبالتالي " لا يجب أن يطلب اللبنانيون المساعدة من أحد بل عليهم هم إيجاد الحلول ".
يختم قائلا أن " الفساد المشكلة الأساسية في لبنان وصعب تحقيق أي شيء في ظل الهيكلية السياسية الحالية ".
هذه الشهادة كفيلة بالشكّ بمصداقية هذه الطبقة السياسية ومطالبتها بتقديم توضيحات عن وجهة أموال " سيدر ١ " وما سينتج عنها، وإلا الإنهيار الإقتصادي والإفلاس هو قدرنا المحتوم وستدفع الأجيال اللاحقة فواتير أخطاء هذه السلطة .
فلبنان لم يعد يحتمل ، والنموذج اليوناني أصدق نموذج عن المستقبل السوداوي الذي ينتظرنا كشعب ودولة.