اعتبر البطريرك الماروني بشارة الراعي ان الرّحمة لا تقتصر على الشّأن الدّيني، بل هي واجبة على الدّولة، بحكم مسؤوليّتها عن المواطنين كأم، ومن باب واجب العدالة التوزيعيّة. نودّ هنا الإعراب عن امتناننا للدول والمنظّمات الدّوليّة الخمسين الّتي شاركت في مؤتمر باريس أمس الأول، ولاسيّما الرّئيس الفرنسي ايمانيول ماكرون الّذي استضافه ونظّمه. نشكرهم من كلّ القلب على الاهتمام بشأن لبنان ونمو اقتصاد واستقراره وقيام دولته أسوة بالدّول المتقدّمة، وعلى الاثني عشر مليار دولار بين قروض ميسّرة وهبات. هذا التّضامن الدّولي وجه من وجوه "الرّحمة". فالمطلوب من المسؤولين اللبنانيين ان يكونوا رحومين وان يتّصفوا بهذه الغيرة على لبنان، وبرحمة شعبه الفقير الّذي تغلب عليه حالة الاستعطاء، فيما هو شعب أبي كريم النّفس. فإذا لم تلتزم الدّولة اللبنانيّة بوعودها في إجراء الإصلاحات السّياسيّة والهيكليّة والإداريّة والماليّة والكهربائيّة والمائيّة، وإزالة الفساد، سيتفاقم الدّين العام، ويتضاعف العجز. غير أنّنا نجدّد الثّقة بالسّلطة الجديدة القادمة بعد الانتخابات النّيابيّة، آملين أن تأتي برجالات دولة حقيقيّين.
اضاف الراعي في عظة الاحد بمناسبة عيد الرّحمة الإلهيّة في بكركي، "لسنا نعلم ما هو الدّافع إلى إدراج التاسعة والاربعين في موازنة 2018 الّتي "تمنح العربي أو الأجنبي، الّذي يشتري شقّة في لبنان، إقامة مؤقّتة له ولزوجته ولأولاده القاصرين في لبنان". فبالرّغم من القيود المضافة على هذه المادّة، وبالرغم من كل التاكيدات الجانبية - ولكن من دون ذكرها في نص واضح - نحن نرى فيها مقدّمة لمنحهم الجنسيّة والتّوطين كما جرى في قانون التّجنيس الّذي خالف الدّستور وضرب في العمق التّوازن الديموغرافي. والأدهى من ذلك أنّ وزارة الدّاخليّة لم تنفّذ منذ صدوره قرار شورى الدّولة الّذي أبطله. كم نتمنّى لو أنّ الحكومة تحلّ مشكلة دعم القروض السّكنيّة وتؤمّن مساكن للشّعب اللبناني الّذي أصبح ثلثه تحت مستوى الفقر، وتضع خطّة إسكانيّة تُظهر من خلالها وجه الرّحمة الّتي لا تنفصل عن العدالة. إنّ أهل البيت أولى بالمسكن قبل سواهم.
ولفت الى ان الدّولة اللبنانيّة تواجه تحدّيات وحاجات أخرى كبيرة تعبّر عنها المظاهرات والاضرابات في كل قطاع، بنتيجة الإهمال المتراكم، وانشغال المسؤولين السّياسيين بمصالحهم الخاصّة والحزبيّة والفئويّة والمذهبيّة على حساب الدّولة، بدل الولاء للوطن وصالحه العام.
واشار الراعي الى إنّ رسالتنا كمسيحيّين حيثما كنا، ولا سيّما في لبنان وبلدان هذا المشرق، أن نُعلن رحمة الله للعالم المتخبّط في الحروب والعنف والقتل والإرهاب. وبقدر ما تشتدّ هذه، بقدر ذلك ينبغي أن نحافظ على وجودنا الفاعل في هذه البقعة من العالم حيث أرادنا الله أن نكون، من أجل تبديله إلى الأفضل. إنّنا نشكر الله على انتشار جماعات الرّحمة الإلهيّة عندنا وهي حاليًا في عشرين رعيّة من مختلف المناطق، وفي بعض رعايا بلدان الإنتشار.
واوضح ان الرّحمة هي من صميم كل دين، ولاسيّما الدّيانات التوحيديّة الثلاث، لأنّها تستمد رسالة الرّحمة من جوهر الله الرّحوم. أمّا ما يميّز المسيحيّة فهو أنّ في فصح المسيح، أي سرّ موته وقيامته، انكشف لنا وجهُ المسيح ابن الله فادي الإنسان. وانطلاقًا من هذه الرّسالة، أسّست الكنيسة المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز المتخصّصة باليتامى والمسنّين والمعوّقين وذوي الإحتياجات الخاصّة، والمؤسّسات الاجتماعيّة الخيريّة، وعلى رأسها رابطة كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الرّسمي، الرّاعوي والاجتماعي. وهي مدعوّة لتجعل الرّحمة قاعدة العمل والرّسالة في جميع مؤسّساتها. غير أنّ الدّولة تهمل المدرسة المجّانيّة لدرجة انّها لا تدفع المتوجّب عليها من أموال منذ ثلاث أو أربع سنوات، ويأتي القانون 46/ 2017 ليرهقها بالمزيد من الأعباء. فهل المقصود إلغاؤها وتوجيه صفعة للعائلات الفقيرة وللحالات الاجتماعيّة الخاصّة؟ ولماذا تتقاعس الدّولة عن دفع المتوجّبات الماليّة للمستشفيات عن المرضى الّذين في عهدتها إلاّ بعد سنة أو سنتين. وهذه عليها دائمًا أن تستقبل المرضى بحكم الضّمير الإنساني؟ هذه المؤسّسات تؤدّي واجب الرّحمة. فهل المسؤولون في الدّولة معفون من واجب الرّحمة والعدالة معًا؟ وما القول عن العديد من أهالي الطلاّب في المدارس الكاثوليكيّة والخاصّة الّذين يحجمون عن تسديد الأقساط العاديّة المتوجّبة عليهم. هذا التّصرّف غير مقبول. فهو من جهّة منافٍ للعدالة التّبادليّة، ومن جهّة أخرى إرغامٌ للمدرسة على إقفال أبوابها لعدم إمكانيّتها على دفع رواتب المعلّمين والموظّفين، ثمّ على الإقفال النّهائي بسبب ما يفرض القانون 46/2017 من أعباء ماليّة لا مجال لحملها.