كتب داريو فو في كلمته التي ألقاها في حفل نوبل 1997 عن المذبحة التي ارتكبتها تركيا ضد 37 مثقفاً كردياً، بإحراقهم جميعاً في ليلة واحدة داخل فندق بمدينة سيفاس. منتقداً في الوقت ذاته الجهل الأوربي بجرائم تركيا التي تدق أبواب أوروبا الغافلة. ما دفع بتركيا إلى منع مسرحيات داريو فو الذي ردَّ على قرار المنع بأنه: "بمثابة منحي جائزة نوبل مرة أخرى".
كتب جندي ألماني مشارك في الحملة الألمانية في الصين سنة 1900 رسالة إلى أمه.يخبرها أن الصينيين مستثنون من حقوق الإنسان، لذلك يمكن قتلهم بلا حدود(العدد 100/مجلة فكر وفن). بعد أكثر من مئة عام. كتب جندي تركي على جدار بيت كردي في مدينة جنديرس التابعة لعفرين "لا نعلم من أحرق روما. أما جنديرس فنحن أحرقناها". فيما تقدم جندي تركي آخر ليأخذ صورة سيلفي مع الجثة التي أحرقها. لن يكون لهكذا صورة اسم. إذ تأتي الأسماء لتربط شيئاً بمعنى ما. فإن اقترحنا عبارة سيلفي المحرقة مثلا لوصف هذه الشناعة، سيبقى المعنى محتجباً. إذ تقع هكذا أفعال فيما وراء الرذيلة بالمعنى الأخلاقي. أي أنها من الأفعال التي ليس بوسع الإجرام أن يعرِّفها من خلال صفاته. فكيف لنا أن نربط هذه الفظائع بدلالاتها الخاصة. يقول "كاستوريادس" في هذا الخصوص: إن (أوشفيتز/ المحرقة) مثلاً، كانت ابتكاراً تاريخياً في مجال الشر.
يتناول "زيغمونت باومان" هذه الإشكالية في السياق اليهودي الذي أخفق في تفريد وتجسيد المحرقة لغوياً. حيث استخدم اليهود كبديل عن عبارة "الجينوسايدGenocide " عبارة "الهولوكوست"، والتي تعني المحروق كاملاً وفقاً لورود العبارة في الترجمة اللاتينية للعهد القديم (سفر اللاوين). غير أنها لم تكن موفقة دلالياً. فعبارة "الهولكوست" وفقاً للتوارة وترجمتها في اللغة العبرية تعني ما تمَّ شواؤه بالكامل من خيرة الأضاحي. وترمز إلى التضحية بالأكمل لإرضاء الإله. بينما شكّلَ اليهود في الرؤية النازية المجموعة القذرة التي يجب التخلص منها. أو بتعبير هوركهايمر "كان اليهود يمثلون الشر الذي يجب القضاء عليه من قبل الشر. لأنه في التخلص منهم يكمن سلام النازية". لذلك أصدر هتلر سنة 1940 المراسيم الخاصة بجعل إبادة اليهود شأناً قانونياً. وتأسست لهذه المهمة مؤسساتها الخاصة. لذلك كانت عبارة الهولوكوست إخفاقاً دلالياً في التعبير عن فداحة الإبادة. فاستعاد باومان ما قدمه الإيطالي جورجيو أغامبين في مؤلفه الأساس"الإنسان المستباح". ذلك الإنسان الذي يمكن قتله دون مسؤولية. تماماً كمضمون الرسالة التي بعثها الجندي الألماني قبل قرن من الزمان إلى أمه. ومع إنتاج الهومو سوكر/المستباح وفقا لآغامبين، بات بوسع الإبادة أن تشتغل بسهولة ضد المجموعات التي تقوم بفرزهم ومن ثم تشرع في قتلهم.
ظهر أردوغان بطريقة مماثلة لظهور هتلر. زعيم مصاب بجنون العظمة. مأخوذ على غرار الشخصيات الفاشية والنازية بالصروح المعمارية (قصره ذو الألف غرفة وغرفة)، محاط بجماهير عصابية مناهضة للعقل، ومريض بفوبيا الكرد. ربط أردوغان بقاء تركيا بإبادة الكرد. وشرّع لأجل ذلك ما يمكّنه من تنفيذ الإبادة. ترتيب الانقلاب الوهمي وتصفية الخصوم وإعادة تشريع الموت بالقوانين. واستأجر لأجل ذلك المرتزقة. وكرّمَ الإجرام عبر تعميمه على جميع الأنساق التي تدخل في بناء الجهاز الثقافي للفرد التركي، تجريم كل ما هو كردي لأجل تحليل قتل كل ما هو كردي.
وفرّت الحرب القذرة في سوريا البنى النفسية الضرورية لظهور المرتزقة في هيئة مجموعات منظمة. ووجدت في الإسلام السياسي مدخلها النقي إلى الشر. فجنّدها أردوغان بكامل قذارتها في المذبحة المعلنة ضد الكرد. وقد تضمنت قائمة المكافآت التي يدفعها لمرتزقته: جنسية تركية وبيوتاً ورواتب. وهكذا وجد الارتزاق حاضنته الطبيعية. ولأن المرتزقون بطبيعتهم يقعون خارج مجال الأخلاق. فهم الأكثر استعداداً لارتكاب أشنع الجرائم. لذلك يوجد فقر لغوي في وصف صورة الجندي التركي الذي أخذ سيلفي مع جثة محروقة في مدينة جنديرس. والشناعة الأكثر التباساً في الكلام، هي تلك التي ارتكبوها بجثة المقاتلة الكردية" آرين كوباني". مسوخ قذرة تشتهي جثة مقاتلة مَثّلوا بها بمنتهى البشاعة.
لا يقدم القانون الجنائي الدولي في المادة الثامنة من نظام محكمة الجنايات الدولية، ما هو أبعد من التكييف القانوني. أفعال موجهة لإبادة شعب يؤدي ارتكابها إلى وصفها بجرائم ضد الإنسانية. قانونياً، تُعتبر تركيا عدوة للإنسانية في عفرين. غير أنه ليس للإنسانية معنى هنا. إذ إنها لا تحيل إلى روابط أخلاقية. بل تظهر كتجريد دعائي لحملة ترويجية تستخدمها بعض المنظمات الإنسانية الفاسدة للحصول على منح مالية ملوثة.
الأمر بالتحديد حضاري. الوحش ذو العين الواحدة (سايكلوب في اليونانية) والذي يقدمه هوميروس في الأوديسة كمثال على غياب العقل، يظهر لدى أردوغان في مرآته. يدخل على الصورة صوت فلهايم رايش مخاطباً الرجل الصغيرأردوغان: "أمسك صورتك في المرآة".
في مقابل ذلك، يوجد شعب مدني لا يجد غير الموت ملاذا للذود عن كرامته. تخسر الحياة حضورها في ما بين الوحشية التركية التي تقود القتلة إلى ارتكاب الإبادة بكل علانية، والكرد الذين اختاروا الموت خلاصاً في غياب الخلاص عن هكذا عالم.
اعترضت "هانا آرنديت" سنة 1946 على إدراج جرائم النازية في حقل القانون الجنائي وفقا للوصف الذي تقدم به أستاذها كارل ياسبرز والذي ردَّ عليها برسالة موضحاً موقفه في أنه يجد جرائم النازية من حيث صلتها بالشر ذات طابع شيطاني. وأضاف أنه يأخذ هذه الأفعال في منتهى الابتذال وفي واقعيتها التافهة (مجلة فكر وفن/عدد58). فتحوّلت جملته تلك إلى عنوان فرعي لكتاب آرنديت حول تغطيتها لمحاكمة أدولف آيختمان في القدس. إدانة الشر في منتهى إبتذاله هو المدخل إلى التفاهة التي يشترطها الشر لينتهك كل ما لا يمكن تصوره. ليست صورة الجندي التركي أمام الجثة التي أحرقها فعلاً جنائياً. لا قانون يمكنه أن يخصص لهذا الحدث عقاباً. إنه إبتكار تاريخي للشر.
تتصاعد حدة النقمة الثقافية في أوروبا ضد صمت الدول الأوروبية على الإبادة المنظمة التي ترتكبها علانية تركيا في عفرين. بينما ينحسر الاعتراض الرسمي الأوروبي إلى درجة التسويغ بإعادة إنتاج هتلر في البيئة الأكثر تأصلاً للشر في المنطقة. ثمة دارة اقتصادية تدفع بأوربا إلى التضحية بهويتها الحضارية في مقابل الرضوخ للهمجية التركية. وباتت تمسّ قانون الحريات داخل أوربا. يرد الخطاب التركي الرسمي على هذه النقمة، بقائمة من الشتائم المعتادة. هذا المستوى من الإهانة التي تطال أوروبا، ليس له عبارات تصفه. تنطبع أوربا بالرذيلة التركية. وتتغافل عن تاريخها الذي جلب الكرامة الإنسانية إلى مجال القوانين عبر التضحيات.
في معرض قراءته لمونتسكيو، عزا لويس آلتوسير السبب الذي دفع بمواطنه إلى نقد ما كان يسميه بـ"العادات التركية الشائنة"، إلى الضرورة التي دفعت بمونتسكيو إلى التفريق بين أمرين: الرذائل الأخلاقية والرذائل السياسية. والتي من خلالها ظهر التسويغ السياسي لجميع الرذائل الأخلاقية المرتكبة. لذلك ربط مونتسكيو شكل الحكومات بمبدئها. الخوف مبدأ الاستبداد والفضيلة مبدأ الديموقراطية. وهكذا لن يكون في وسع من لا فضائل لديه، أن يكون حراً في علاقته مع غيره من الأحرار. بعد مونتسكيو بسنوات. ظهر صوت فرنسي آخر ناقداً للأتراك. آرنيست رينان الذي كتب في نظريته عن الأمة 1882، الأسباب التي جعلته يعتقد باستحالة أن تتحول تركيا إلى أمة. وذلك لافتقارها إلى الإناء الذي تطبخ فيه الإثنيات علاقاتها مع بعض. روابط لا يمكن بناؤها إلا بالحرب. تلك هي سيرة الطورانية التي ينشدها أردوغان.
(سامي داوود - كاتب كردي سوري)