مهّد ترامب جيداً لاتّفاقه الموعود من خلال الصين والتي تشكّل المفتاح الحقيقي للمعضلة القائمة. لكن في انتظار ذلك لا بد لواشنطن من تكثيف مستوى ضغوطها ورفع صوتها اينما كان في العالم للوصول الى طاولة المفاوضات مع كوريا الشمالية بأكبر مقدار من القوة ما يسمح بانتزاع اقصى ما يمكن انتزاعه.
وبعدها يمكن ترامب دخول الانتخابات النصفية بنحو افضل والتمهيد لمعركة التجديد له لولاية رئاسية ثانية.
ذلك أنّ ترامب الذي يصوّب على الإنجازات السياسية كان نجح، في رأي الأميركيين، في تحقيق إنجازات اقتصادية داخلية ووفقاً لآخر استطلاع رأي أجرته شبكة CNN فإنّ شعبية ترامب ارتفعت سبع نقاط لتصل الى 42 % وأنّ أعلى نقاطه نالها في الملف الاقتصادي.
هذه الإنجازات الاقتصادية ساعدته في تحقيقها العقود الهائلة وغير المسبوقة على المستوى الدولي مع السعودية، فضخّ مئات المليارات من الدولارات في الاقتصاد الأميركي فعَل فعلَه، وأمّن كثيراً من الوظائف. أضف الى ذلك أنّ اللوبي اليهودي والذي قدّر كثيراً موقف ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل عمل على وضع إمكاناته لمصلحة التخفيف من الضغط الداخلي على ترامب في ملفّ التواصل مع روسيا، ومعه كان يمكن ملاحظة تراجع الضغط الحاصل على ترامب منذ قراره حول القدس.
وهنالك أيضاً موعد تجديد الاتّفاق النووي مع إيران وهو ما يعطي البيت الابيض ورقة اضافية لاستثمارها في سياق مشروعها برفع الصوت والتهويل من خلال الضغط.
وفي المسار الضاغط على طهران محاكاة لكوريا الشمالية بالدرجة الاولى، وايضاً دغدغة عواطف القيادة السعودية وفتح الابواب امام «وظيفة» جديدة لإسرائيل في الشرق الاوسط. لكنّ ترامب يريد من خلال الضغط إضافة بنود على الاتّفاق النووي لا إلغاءه أو نقضه كما يتوهّم البعض الذي يخلط بين المناورة والمعركة الفعلية، وبين فرض عقوبات جديدة أو نسف الاتّفاق من أساسه.
وفي ندوة نظمتها صحيفة «يديعوت احرونوت» تحدّث ثلاثة رؤساء أركان سابقين في الجيش الإسرائيلي وهم شاوول موفاز وموشي يعلون ودان حالوتس الذين توافقوا على ضرورة ضمان المجتمع الدولي لكي لا تصل إيران الى مرحلة السلاح النووي، إلّا أنّ الثلاثة اجمعوا على معارضتهم إلغاء الاتّفاق النووي الذي أُبرِم مع إيران عام 2015 وجلّ ما طالبوا به هو وضع قيود أكبر عليه.
وإذا كان ترامب يتباهى بإنجازاته على مستوى الاقتصاد الأميركي، فهو يدرك جيداً أنّ تعاظم قوة إيران وقدراتها في الشرق الاوسط السبب الحقيقي وراء ضخّ مئات مليارات الدولارات السعودية في الاقتصاد الأميركي. ما يعني أنّ إيران هي الدجاجة التي تبيض ذهباً بالنسبة اليه، فهل من المنطقي أن «يخنق» الدجاجة هذا إذا افترضنا أنه قادر على ذلك.
فحتى على مستوى الحرب في اليمن جاءت النصحية الأميركية لولي العهد السعودي بالذهاب في اتّجاه الحلّ السلمي وتفعيل الوساطة العمانية لا الرهان على حلّ عسكري يؤدّي الى إغراق السعودية أكثر فاكثر. وتردّد أنّ أكثر اللقاءات برودةً مع ولي العهد السعودي كانت في الكونغرس حيث نُقل عن الأمير محمد بن سلمان قوله إثر اللقاء انّ الخيارات في اليمن هي في المفاضلة بين السيّئ والأسوأ.
وكان لافتاً إطلاق الحوثيين صواريخ بالستية جديدة في اتّجاه السعودية لحظة وجود وليّ العهد السعودي في واشنطن. أضف الى ذلك انّ البيت الابيض الذي يعمل على احتواء النفوذ الروسي في الشرق الاوسط يريد حدّاً أدنى من الاستقرار يضمن بقاء الخليج بعيداً عن روسيا. وعدا التودّد السعودي في اتّجاه روسيا والذي فرضته حاجة الحرب في اليمن، سُجّل فشل صاروخ باتريوت في صدّ صواريخ الحوثيين ليعود وينفجر في الارض. هذه الواقعة شجّعت موسكو للسعي الى تسويق منظومة «إس -400» للدفاع الجوّي وهو ما يثير واشنطن كثيراً، مع التذكير بإدانة روسيا قصف الاراضي السعودية في إطار استدراج الرياض.
وفي واشنطن عرض الأمير محمد بن سلمان زيادة التعاون العسكري الأميركي مع القوات السعودية، وتحدّث الوفد السعودي المرافق عن المصاعب وضعف المعلومات، اضافة الى الشكوى من عبوات ناسفة متطورة مضادة للدروع يجرى زرعها على جوانب الطرق والتي تأخذ أشكال الصخور والحجارة وهي تكنولوجيا يمتاز بها «حزب الله» وقادرة على إختراق افضل المركبات المصفّحة في العالم، وأوقعت خسائر كبيرة في المدرّعات السعودية، ودفعت القوات الأميركية في العراق فاتورة باهظة جراء هذا النوع من العبوات التي قتلت 196 جندياً أميركياً وجرحت 861 آخرين.
وفي هذه الزاوية تمّ اتّهامُ «حزب الله» بنقل اسلحة الى الحوثيين، وهذا ما يُرجِّح أن يشمل الضغط «حزب الله»، أو ربما استهداف أحد مخازنه في سوريا بشرط أن لا يؤدّي ذلك للانزلاق الى مواجهة أوسع وهو ما تتحاشاه واشنطن، لا بل ترفضه رغم أنها تهوّل به.
دايفيد كاتلر وهو مدير الاستخبارات القومية للشرق الأدنى في الاستخبارات الأميركية قال خلال طاولة مستديرة في «معهد واشنطن» إنّ الشرق الاوسط هو المنطقة الأكثر ديناميكية في العالم، وهذه الطبيعة تجعل المهمة صعبة للغاية.
ولكنه أضاف قائلاً «إنّ المصالح الأميركية تتوافق في هذه المنطقة مع حلفائنا كما مع خصومنا على حدٍّ سواء». وأضاف «أنّ العوامل نفسها ما تزال موجودة والتي أدّت الى بروز الثورات العربية و»داعش». وتوقع «أننا سنواجه المشكلات نفسها مستقبلاً».
ووفق ذلك فإنّ المسؤول الأمني الأميركي الرفيع يتحدّث عن اضطرابات ستعاود ظهورها مستقبلاً في الواقع العربي وأنّ بلاده تتقاطع في بعض المسائل مع إيران.
وفي التوقعات التي يجري تناقلها في الكواليس الديبلوماسية عودة ظهور «داعش» على مسرح الإرهاب ودفع مؤيّديه الى شنّ هجمات أينما كانوا في الخارج. أما في المناطق القريبة من الحدود السورية ـ العراقية فإنّ من «الغريب» أن تبقى هذه «البقع» تحت سلطة «داعش» العسكرية، فيما كان من المفترض أن تنتهي كلياً، ومنذ زمن بعيد. كذلك وفيما «داعش» يعاود ظهوره سُجِّل استخدام حركة «طالبان» تقنية عسكرية جديدة متطوّرة مثل «اللايزر» ومناظير الرؤية الليلية.
وصحيح انّ ترامب أعلن عن قرب انسحاب الجيش الأميركي من سوريا، لكنّ كثيراً من الاطراف شكّك بهذا الموقف، خصوصاً أنه أتى خلال زيارة وليّ العهد السعودي للولايات المتحدة الأميركية وقيل إنّ ترامب طالب بخمسة مليارات دولار سنوياً دعماً مالياً لكلفة بقاء القوات الأميركية في سوريا، علماً انّ القيادة العسكرية الأميركية لا تخطّط ابداً للرحيل، بل للبقاء طويلاً، خصوصاً انّ القوات الاميركية تسيطر على المنطقة الغنيّة بالنفط، وأنه في حال انسحابها تصبح هذه الحقول في يد إيران أو حلفائها.
كذلك فإنّ من ابرز المهمات الفعلية للقوات الأميركية احتواء تمدّد النفوذ الإيراني والتحكّم بالتواصل البري بين إيران والساحل اللبناني، اضافة الى منع روسيا من مواصلة توسيع دائرة نفوذها في المنطقة.
في اختصار علينا ألّا نصدّق كل المواقف التي يطلقها الرئيس الأميركي وهو بارع في اطلاق المواقف العالية، لكنّ الرعد الذي يُحدثه لن ينتج عواصف كما يأمل، أو ربما يتوهّم كثيرون، من بينهم مسؤولون لبنانيون منهم مَن راهن على أوهام منذ العام 2005 ومنهم من دخل دائرة الوهم حديثاً.
هذا، علماً أنّ في الكواليس الدبلوماسية وشوشات أنّ التواصل الأميركي مع «حزب الله» قد بدأ ولو أنه ما يزال ضعيفاً في مرحلته الاولى ولو أنه يحصل من خلال الواسطة وليس بطريقة مباشرة وقد لا يكون بطريقة مباشرة قريباً لكنّ حصول هذا التواصل له مدلولاته بكل تاكيد.