أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثالث من نيسان 2018، ورشة بناء أول مفاعل نووي في تركيا تترأسها مجموعة “روساتوم” الروسية، في بادرة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ويبلغ قيمة هذا المشروع 20 مليار دولار والذي يبدأ العمل به في عام 2023 حيث يصادف الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وقالت وكالة أنباء الأناضول الرسمية في تركيا، إن عشرات الآلاف يعملون في هذا المشروع.
حرب باردة جديدة
ولكن ثمة حديث متداول بين عامة الناس عن حرب باردة جديدة. وهذا يقودنا إلى مقارنة ما يحدث حالياً من توتر وتنافس أيديولوجي وعسكري مرير مع ما حدث في الاتحاد السوفييتي (سابقا) والغرب منذ خمسينات وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. لكن قد تكون مثل هذه المقارنات مضللة.
يقول مايكل كوفمان، وهو باحث بارز في مؤسسة CNA ومؤسسة كينان التابعة لمركز ويلسون: ” كانت الحرب الباردة عبارة عن سباق بين قطبين سياسيين يتنافسان على تشكيل السياسة الدولية، وكان كلا النظامين يتمتعان بمزايا اقتصادية وعسكرية”. وأضاف كوفمان بأن “أيديولوجيتهم الشمولية جعلت تلك المنافسة حتمية وكان لا بد من اقتسام السلطة”.
أما الآن، فالمنافسة ليست نتيجة لتوازن القوى، أو الأيديولوجية الشمولية بحد ذاتها، بل قرارات واعية اتخذها القادة، واستراتيجيات اتبعوها، وسلسلة من الخلافات المحددة في السياسة الدولية. وهذه لم تكن “موجهة أو حتمية”.
القوة الناعمة
يعتقد كوفمان أن تكون المخاطر كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن حجم الصراع وطبيعته الوجودية لا يشبهان الحرب الباردة، كما أن روسيا أيضا ليس بمقدورها تغيير توازن القوى أو إحداث شيء يخص هيكلة النظم الدولية الحالية.وباختصار، فأسباب الصراع و طابعه مختلفان.
وبالعودة إلى الوراء، نرى بأنه كان هناك سلام مسلح في أوروبا خلال الحرب الباردة الفعلية ، في حين خاض جميع أنحاء العالم المعارك الحقيقية بدءً من أنغولا فكوبا مروراً بالشرق الأوسط. وعموماً، فخطوط المعركة اليوم أقرب إلى الحدود الروسية – الجورجية والأوكرانية. وهناك توازن مختلف للقوى بين روسيا والغرب. فلدى روسيا ” قوة ناعمة” محدودة جدا وتفتقر إلى أيديولوجية دولية جذابة قابلة لترويجها في جميع أنحاء العالم.
وإذا كانت الحرب الباردة هي صراعاً من أجل الهيمنة العالمية بين أيديولوجيتين عالميتين، الرأسمالية والشيوعية، فعلى ماذا يدور التنافس في الوقت الحالي.
يتعلق الأمر بالنسبة إلى روسيا، وبحسب كوفمان، برغبتها بالبقاء كقوة في النظام الدولي، وتمسكها ببقايا الإمبراطورية الروسية. كما أن القادة الروس يعملون جاهدين لتجنب اقتصاء المزيد مما تبقى من نفوذها وأراضيها الروسية، فليس لديهم طريقة لفعل ذلك دون الإبقاء على دول منعزلة وفرض إرادتهم على جيرانهم لتأمين حدودهم. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهو “صراع محيَّر”، أحد جوانبه هو الغطرسة والتوسع في النفوذ، أي تقديم الأيديولوجية الليبرالية على التفكير في السياسة الدولية. وقد استفادت واشنطن من تحقيق ما تريده منذ اكثر من عقدين من الزمن لعدم وجود قوة تنافسه، ولكن كلفة توسيع نفوذها وقوتها كانت باهظة، وبدت أن هذه التكاليف ترتفع مؤخراً.
متلازمة الحرمان من العدو
من الواضح جداً أن روسيا والصين، لم ينخرطا في أعماق الليبرالية التحررية انتهاء بالحرب الباردة، كما لا توجد طريقة يفرض بها الغرب رغبته على هذه القوى. وهذا يعني عودة الأقطاب بشكل أو آخر. ولكن، يقول العديد من المعلقين إن الغرب أيضاً يتحمل بعض المسؤولية عن الوضع الحالي وأن اللعب على وتر حرب باردة جديدة من شأنه أن يفاقم الوضع أكثر.
ويقول “ليل غولدستين” وهو أستاذ أبحاث في الكلية الحربية البحرية الأميركية: “يبدو أن الكثيرين في الغرب استسلموا لـمتلازمة الحرمان من العدو بعد الحرب الباردة. والكثيرين من المتخصصين في الأمن القومي يتوقون إلى تهديد أكثر بساطة”. أما الأوضاع في جورجيا وأوكرانيا فكانت تبدوان كمقدمة جيدة لحرب باردة جديدة. وبرغم ذلك، فالوضع معقد للغاية، وكل من لديه معرفة عن أوضاع المنطقة هناك، يدرك تماما أن الحالتين كانت نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي السريع والقضايا المتعلقة بالهوية والحدود.
أي قوة لدى روسيا الآن؟
يصفها كوفمان بـ “قوة عظمى ضعيفة”. ويضيف على ذلك أنه يتم التقليل من قيمة روسيا باستمرار لأنها تاريخيًا متخلفة عن الغرب في ما يتعلق بالتطور التكنولوجي والسياسي والاقتصادي، ولكن موسكو حاضرة بقوة بسبب ثقلها الاقتصادي في النظام الدولي. وروسيا ليست قوة إقليمية متدهورة، بل على العكس من ذلك تماماً.
نوع التهديد العسكري الذي تفرضه روسيا على الناتو
يقول البروفيسور غولدستين، إن القوات الروسية أساساً أضعف بكثير من القوات الأميركية و قوات حلف الشمال الأطلسي، ومع ذلك ، استثمرت روسيا ” بحكمة” في السنوات الـ 15 الأخيرة، محافظة على بعض القدرات المتخصصة التي تقدم لها بعض المزايا. وعلى سبيل المثال، لا يقوم حلف الناتو بمكافحة نظام روسيا التكتيكي النووي، وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل لقادة الناتو، ناهيك عن أن روسيا لديها قدرات كبيرة في سلاح المدفعية والحرب الإلكترونية.
حرب تختارها روسيا
لكن قدرات روسيا في الحرب الإلكترونية والمعلوماتية أكثر وضوحا وتطرح تحديات أكثر إلحاحاً، فوسائل الإعلام ومراكز الفكر تغمرها المناقشات حول ظاهرة جديدة، تسمى بـ “الحرب المختلطة”، وهي خليط من السلام والحرب، وهي تقنية يرى الكثيرون أن روسيا تتقنها.
ويضيف كوفمان بأنه لا توجد قوة عظمى ذات تهديد من لون واحد، ولكن في الحقيقة، روسيا قوة عسكرية قوية في محيطها، ولها القدرة على شن حرب سياسية وأخرى إلكترونية وبإمكانها التنافس في مجال المعلومات بسهولة. أن معظم الأدوات المستخدمة حتى الآن تتعلق بضمان الحلفاء وحل المشكلات في سياسات التحالف، لكن لا توجد نظرية واضحة حول كيفية التأثير على سلوك روسيا.
ويقول غولدستين، إن الهوس بالحرب المختلطة “إشكالية” وإن الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يؤدي إلى نشوب حرب ساخنة خارج نطاق السيطرة في سوريا أو أوكرانيا الأكثر خطراً ليس إلا سوء تقدير. ولقد ثبت أن الحرب المزعومة في أوكرانيا كانت “حقيقية مع قوى تقليدية في الغالب”. وعدم اعتراض الولايات المتحدة وحلف الناتو على ضم شبه جزيرة القرم، ليست له علاقة بـ “الحرب المختلطة” بل بكل ما يتعلق بالتوازن العسكري الفعلي وحقيقة أن شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا كانا جزءًا من المصالح الأساسية لروسيا. بالإضافة إلى مشكلة أخرى، وهي أن الغرب في جهوده للتأثير على سلوك روسيا قد لا يستخدم الوسائل الصحيحة. والتدابير الدبلوماسية جيدة في الحفاظ على الوحدة السياسية، لكنها لا تغير الآراء في موسكو.
وعلى الجانب الآخر. فمحاولة إقناع روسيا بالانسحاب من السياسة الدولية أو الاستسلام في أوكرانيا ليس تفكيرا صائباً ولا ينتهي بنتيجة.
ولكن وفي نهاية الأمر، ربما ينبغي إعادة التفكير في السياسة المتبعة تجاه موسكو آخذين بعين الاعتبار تداعيات الانهيار الفوضوي للاتحاد السوفييتي التي ما زالت مستمرة حتى الآن منذ ثلاثة عقود.