لا جديد في خطاب المرشحين للبرلمان اللبناني الجديد. يتوجهون إلى ناخبيهم بالوعود نفسها، لكنهم يشحنونهم بما هو أكثر تأثيراً في الاحتشاد: التعبئة الطائفية والخوف من الآخر. لكن المشهد يبدو في جانب منه غرائبياً مع ميل إلى الكوميديا: كيف أن التكتل الطائفي يهاجم التكتل الطائفي الآخر في دائرة انتخابية ويتحالف معه في دائرة أخرى. شيء من البراغماتية في هذه التعبئة الطائفية العمياء.
والأغرب أن الحلفاء الذين يرفعون قبضاتهم أمام الحشود سرعان ما يتصارعون على الصوت التفضيلي أو الترجيحي. إنهم يطلبون حاصلاً انتخابياً مرتفعاً للائحة، لكنهم يتبادلون الخوف من الصوت التفضيلي داخل اللائحة نفسها.
انتخابات معقدة قد يسأم من متابعتها غير اللبناني، لكن عيون الإقليم والعالم تراقب ما يحدث قياساً إلى الصراع الكبير بين أهل المشرق العربي وجوارهم الإيراني والتركي الذي يعبث بهم فكراً ومالاً وسلاحاً وجيوشاً مستترة بأثواب متطوعين. وهو عبث يطاول الدولة والمجتمع جاعلاً من السياسة سبيلاً إلى اقتسام الدولة ومن الفكر والمال والسلاح وسائل إلى انقسام المجتمع ودخوله في حروب باردة قد تسخن بين وقت وآخر.
الانتخابات النيابية مرآة «ديموقراطية» لحروب الداخل السوري والعراقي، والفلسطيني أيضاً. وكما نفتقد الجديد في خطاب المرشحين على اختلاف انتماءاتهم، لا أحد يتوقع تغييراً يعقب الانتخابات، فتوافق الأمر الواقع سيجمع الخصوم في برلمان واحد وفي حكومة واحدة. هنا تفقد الديموقراطية معناها حين تتكرر المعادلة وتستمد حيويتها، بل ضرورتها، من التهديد بالحرب إذا انتهت الانتخابات إلى أكثرية وأقلية، يعبر عنهما بالغالب والمغلوب. هنا نتذكر شعار رئيس الحكومة الراحل صائب سلام «لا غالب ولا مغلوب»، كما نتذكر الحرب التي أعقبت إطلاق رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية «وطني دائماً على حق»، عندما نسب كل طرف كلمة «وطني» إلى نفسه وراح يقاتل الآخر في حرب بين حق وباطل.
ولكن، لا تخلو الاستعدادات للانتخابات اللبنانية من طرائف ودلالات، أبرزها أن الحراك المدني يصرّ على الحضور ترشيحاً في مختلف المناطق، مواجهاً عواصف التعصب والتحامل التي يطلقها الخطاب الطائفي. وسيقع الحراك ضحية عواصف الطوائف العاتية، لكنه يذكّر في كل الأحوال بأن اللبنانيين يعترضون على الطائفية، وإنْ كانوا يمارسونها من باب التعوّد أو الأمر الواقع أو الخوف من وصول البؤس الطائفي السوري والعراقي المسلح والقضاء على عيش التنوع في لبنان.
لا يحق لسياسي لبناني أن يغسل يديه من دنس الطائفية، فحتى الأمين العام لـ «حزب الله» الذي يضع على رأسه عمامة ويعلن ترفعه عن الطائفية، بدأ يمارس الطائفية بعلنية ووضوح خوفاً على كتلته النيابية من التراجع. وتتوقع أوساط قريبة منه وبعيدة منه أن يتجوّل شخصياً في البقاع الشمالي ليمنع اختراق لائحته، ومثل الأمين العام آخرون أسسوا إلى جانبه وبالاختلاف معه دولاً داخل الدولة، مع الفارق أنه مسلح وهم مدنيون عزّل.
لطالما تعايشت الطائفية مع الدولة في لبنان، لكنها في هذه المرحلة تنهشها فيضيع دم الدولة بين الطوائف/ القبائل. وتعاود الطوائف تشكلها في عائلات تقتطع حكم أجزاء خاصة بها في المجتمع اللبناني، وتمارس بفجاجة سياسة بلا أخلاق على رغم رفعها شعارات تتجاوز حدود الوطن إلى الإقليم والعالم.
وعلى رغم ذلك، يقاوم المجتمع اللبناني الموت بالانفتاح وبثقافة تتجاوز التعصب، بل تحتقره، وأحياناً تسخر من تفريقه بين متشابهين ينتمون إلى ثقافة ذات معالم واحدة تستند إلى تقارب اللغة والمصالح. وقد تضطر خفقة الحياة اللبناني الفرد إلى الهجرة التي صارت جزءاً من ثقافة هذا الشعب الذي يلاعب الجروح.
وفي مجال السخرية، ثمة من يعقد مقارنات بين لبنان وأميركا اللاتينية، إذ ينجح لبنانيون هناك في قيادة جمهوريات فاسدة تجد مرجعيتها في اليانكي الشمالي. ومثل هؤلاء قياديون طائفيون لا ينقصهم الارتباط بأي يانكي آخر يطلب من لبنان يداً أو قدماً أو من يصرخ باسمه لقاء ثمن بخس.