فزيارة العلولا الثانية لبيروت التي سينهيها اليوم حَفلت بسَيل من اللقاءات على كل المستويات غاصَت في مختلف الشؤون اللبنانية وكيف يمكن المملكة العربية السعودية أن تساهم في معالجتها، من دون التدخل في شأنٍ للبنانيين وحدهم حقّ التقرير فيه، على حد قول بعض الذين اطّلعوا على اجواء هذه اللقاءات.
واللافت انّ العلولا لم يتناول في لقاءاته ملف الاستحقاق النيابي الّا في العموميات، غير متوقّف عند التفاصيل لجهة من يفوز بأكثرية نيابية ومن لا يفوز، ما عكس لدى المطّلعين انطباعاً مفاده انّ المملكة مدركة انّ هذا البلد لا يُحكم إلّا بالتوافق، وأنّ ايّ فريق فيه مهما كبر حجمه لا يستطيع اخضاع الآخرين، بل انه مُجبر على التفاهم معهم على حكم البلاد وادارة شؤونها.
على انّ الفارق ايضاً بين زيارة العلولا السابقة وزيارته الراهنة هو انه يزور لبنان الآن، أولاً لتمثيل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في الاحتفال بافتتاح جادة باسمه على الواجهة البحرية لبيروت، وثانياً لمتابعة المهمة التي كان جاء لأجلها في زيارته السابقة، ولكنّ اضطراره للسفر يومها الى الرياض ليكون في استقبال رئيس الحكومة سعد الحريري الذي لَبّى سريعاً دعوة السعودية التي نقلها اليه لزيارتها، ما حال دون استكماله لقاءاته مع مختلف الاطياف السياسية اللبنانية.
ويبدي العلولا ارتياحاً الى زيارته الراهنة ويقول لـ«الجمهورية» عندما سئل عن انطباعاته التي كوّنها من لقاءاته وجولاته: «من قلبي سلام لبيروت... من قلبي سلام للبنان، هذا البلد الجميل الذي لطالما أحببته بطبيعته وثقافته وواقعه وناسه، فاللبنانيون اقوياء واذكياء ومبدعون ولا خوف على بلدهم ومستقبله». ويضيف: «إني أرى انّ مستقبل هذا البلد سيكون افضل».
ولا يغفل العلولا التنويه بدور اللبنانيين في نهضة المملكة العربية السعودية وعمرانها على مستويات كثيرة. ويقول: «بصمة اللبنانيين بارزة في مسيرة المملكة وتطورها ونموها، وهي بصمة لا يمكن ان تزول».
وعندما يُسأل عن موضوع الإنتخابات النيابية يقول: «انّ المملكة لا تتدخل في الانتخابات التي هي شأن لبناني داخلي، ولكنها تراهن على وعي اللبنانيين وتصميمهم على بناء مستقبل أفضل لبلدهم انطلاقاً ممّا يتمتعون به من ارادة وتصميم وذكاء»... ويعتبر العلولا انّ المشكلات بين هذه الفئة اللبنانية وتلك، أو بين هذه القيادة السياسية او تلك، أو حتى بين من يعتبرون انفسهم أبناء صف واحد، «هي مشكلات تحلّ بالحوار، إذ بمجرد ان يلتقي المختلفون تهدأ النفوس وتنفتح الأبواب أمام حصول التفاهم».
المملكة الثانية والعلاقات الجديدة
لم يهدأ جناح العلولا في فندق فينيسيا منذ ان حلّ فيه إثر انتهاء الإحتفال الذي أقامته السفارة السعودية مساء امس الاول لمناسبة تدشين جادة الملك سلمان بن عبد العزيز على الواجهة البحرية لبيروت، فما ان يستقبل العلولا والقائم بأعمال السفارة السعودية الوزير المفوض وليد البخاري هذا الوفد او هذه الشخصية او تلك، حتى يكون آخرون في الانتظار، إذ تحوّل هذا الجناح خلية نحل لم تعرف الهدوء منذ وصول العلولا الى فجر اليوم ومسلسل اللقاءات مستمرّ شاملاً غالبية ألوان الطيف اللبناني السياسي والطائفي.
وكان الابرز في هذه اللقاءات الخلوة التي عقدها العلولا والبخاري على هامش القمة في «فينيسيا»، مع رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، ويبدو انّ هذه الخطوة كسرت الجليد، وفتحت الباب امام تَوصّل هذا «الثلاثي» الى تفاهم وخصوصاً بين الحريري وجعجع اللذين لم يلتقيا منذ مدة طويلة لأسباب بعضها معروف وبعضها الآخر مجهول، علماً انّ الحريري كان قد اشار، إثر زيارته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الثلثاء الماضي، الى انه سيلتقي جعجع قريباً، فهما تصافحا معاً ومع جنبلاط خلال الاحتفال بتدشين جادة الملك سلمان، الى جانب ما حصل من وشوشات بين بعضهم وكلام بين بعضهم والعلولا من فينة الى اخرى على وقع الكلمات التي ألقيت بالمناسبة، الى درجة انّ بعض هذه الوشوشات حصل إثر انتهاء الاحتفال أثناء انتظار الترتيبات الامنية لمغادرتهم مكان الاحتفال الى فندق فينيسيا.
ويؤكد العلولا انّ المهمة التي يضطلع بها في الشأن اللبناني وما يتحدث به في اللقاءات التي يعقدها هي التعبير عن طبيعة العلاقة اللبنانية ـ السعودية بطبعتها الجديدة. ذلك أنّ المملكة الجديدة التي يبنيها الآن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الامير محمد بن سلمان، تستوجب، بل تفرض، نَسج علاقات جديدة للمملكة مع كل الدول العربية خصوصاً، ومع العالم عموماً، تحتفظ ببعض الثوابت التي تميزت بها العلاقات القديمة، وتتسِم بطابع الإنفتاح على الجميع دولاً وشعوباً.
وفي هذا السياق فإنّ العلاقة التي بدأت المملكة تبنيها مع لبنان بدأت تشكل نموذجاً لهذه العلاقات الجديدة، إذ انّ الرياض تعمل الآن لتأكيد انفتاحها على جميع الاطياف اللبنانية وتركّز على مسألتين: الاولى الحفاظ على عروبة لبنان وعدم ربطه بأي محاور اقليمية او دولية، والثانية الحفاظ على مشروع الدولة ودعمه وعلى استقرار لبنان وصَون صيغة العيش الواحد بين اللبنانيين بكل انتماءاتهم.
ولا تخفي المملكة عطفها على بعض الافرقاء والشخصيات السياسية التي ترتبط بعلاقات تاريخية معها، ولكن المرجّح أنها في ضوء طبيعة العلاقات الجديدة التي تنسجها مع لبنان لن تتمسّك او تتعصّب لهؤلاء على حساب الآخرين، بل انها من الآن وصاعداً ستساوي بينهم وبين من تنفتح عليهم او ينفتحون عليها.
ستتكرر زيارات العلولا لبيروت قبل إنجاز الاستحقاق النيابي في 6 ايار المقبل وبعده، فمهمة الرجُل في لبنان تتخطى هذا الاستحقاق الى صوغ العلاقات اللبنانية ـ السعودية بطبعة جديدة لم تفرضها فقط الظروف التي تمر بها المنطقة والعرب جميعاً والعالم، وإنما فرضها ايضاً وبإلحاح مشروع بناء المملكة العربية السعودية الثانية الذي سيبلغ خواتيمه في 2030.