يقول ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالميّة الثانية: "في السياسة ليس هناك عدوٌّ دائم أو صديقٌ دائم، هناك مصالح دائمة".
والأمثلة هُنا أكثر مِنْ أنْ تُعَدّ وتُحْصى، فما مِن قوّة عُظمى إلّا وغيّرتْ تحالفاتها مِن درجة حليف إلى مرتبة عدوّ.
الولايات المتحدة الأمريكيّة مثلاً دعمت الزعيم السابق لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن في حربه ضدّ الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، وأسْمَت المقاتلين الأفغان، وداعميهم العرب حينذاك بـ"المجاهدين"، وأوعزت إلى حلفائها من الدول العربيّة والإسلاميّة بدعمهم ماليّاً، وبشريّاً.
وحين انتهتْ مهمّة "المجاهدين" تحوّلوا بقدرة "الولايات المتحدة" إلى إرهابيين يَجِب التخلّص منهم ومن شرورهم، فكان لها ما أرادت أيضاً، حتى تحوّلَ "بن لادن" إلى "بدون" وقُتلَ في ظروف غامضة، وأخفت جثة حليفها السابق.
وبالانتقال إلى الحالة السوريّة، فالحالات المشابهة متعددة، فروسيا وصل خلافها مع تركيا إلى مرحلة العداء، وبلغت ذروته حين أسقطت أنقرة مقاتلة السوخوي الروسية أواخر العام 2015، وتأزمت علاقتهما إلى حد التهديدات المباشرة، إلى أنْ اعتذر رئيسها رجب طيب أردوغان من نظيره الروسيّ فلاديمير بوتين عن الحادثة.
اعتذارٌ فتح الباب لعلاقاتٍ متميّزة رافق فتور مع حليفتها السابقة واشنطن على خلفية دعم "البنتاغون" لقوات سوريا الديمقراطيّة في حربها ضد تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، وعَزْمِ الحكومة الأمريكيّة دعم الإدارة الذاتيّة الكُرديّة بإرسال دبلوماسييها للمساعدة في إدارة المناطق، وكذلك إعلان وزارة الدفاع الأمريكيّة عن خطط لتدريب حرسٍ لحدود مناطق سيطرة "سوريا الديمقراطيّة" وتخصيص 550 مليون دولار لتدريب "القوات" في ميزانية العام 2019، ما زاد من التخوّف التركيّ، وجعله يشنّ هجوماً واسعاً على مدينة عفرين، لسدّ الطريق أمام إنشاء كيان كُرديّ حليف للولايات المتحدة.
التحالف الأمريكيّ الكُرديّ أيضاً قد لا يكون استراتيجياً لأسباب متعددة، منها ما يتعلق بالإيديولوجيا اليساريّة لحزب الاتحاد الديمقراطيّ، والتي لا تقاطعات لها مع مصالح واشنطن، وكذلك بالنسبة للمصالح المشتركة الأمريكيّة التركيّة. فالبلدان من الأعضاء المؤسسين لحلف شمال الأطلسي، كما عقدت الولايات المتحدة مع تركيا اتفاقية في عام 1969،سمح بموجبها لواشنطن بإقامة ست وعشرين قاعدة عسكريّة، منْ أهمّها قاعدة إنجريليك،أضخم القواعد الجويّة للحلف الأطلسيّ على الأراضي التركيّة،مجهزة بطائرات وصواريخ وأجهزة اتصال رادارية متطورة وبعيدة المدى إضافة إلى تواجد الآلاف من الجنود الأمريكيين والأوروبيين،وتسمح لهذه القاعدة بالسيطرة على أجواء الجزء الشرقيّ من البحر المتوسط.
واشنطن التي تسعى لتجنّب مواجهة مباشرة بين الجيش التركيّ والقوات الخاصة الأمريكيّة التي تواصل العمل مع كُرد سوريا، وتمضي بالتعهّد لتركيا بمعالجة هواجسها الأمنيّة، وكذلك حثّ الكُرد على عدم التصعيد ضد أنقرة، وكذلك تقديم الوعود بمواصلة التعاون، وخصوصاُ العسكريّ، يخلق حالة شكّ من الحليفين بشأن النوايا الأمريكيّة في سوريا.
في إحدى مقابلاته حول السياسة الخارجيّة الأمريكيّة قبل انتخابه، صرّح دونالد ترمب لصحيفة نيويورك تايمز في تموز 2016 بأنّه واحد من "محبي الكُرد"، المرشّح (آنذاك) أضافَ بأنّه إذا تمّ انتخابه فإنه سيعمل "في وقت مبكّر جدّاً" على إصلاح العلاقات بين تركيا والكُرد، وذلك عن طريق المفاوضات، لكن يبدو أنّ ما أراده الرئيس الحالي لَمْ يَكُنْ ممكناً، رغم محاولات تقريب وجهات النظر بين تركيا والكُرد، وخصوصاً في ظل تباين مقاربتهما للحالتين التركيّة والسوريّة.
معركة عفرين التي شنّها الجيش التركيّ بالاشتراك مع فصائل سوريّة معارضة زادت من نسبة القلق الكُرديّ تجاه الموقف الأمريكيّ. فبعد رفض كرديّ لعرض موسكو يقضي بتسليم المدينة للحكومة السوريّة، والتي يبدو أنّ هدف الكُرد منها كان التعويل على موقف أمريكيّ مساند لهم، وهذا لم يحصل لاحقاً، ما حدا بوحدات حماية الشعب للاستعانة بالجيش السوريّ، وكذلك دعوة الإدارة الذاتيّة في عفرين، للحكومة السورية بالدفاع عن المدينة لمواجهة العمليّة التركيّة التي تسير وسط لامبالاة أمريكيّة، على اعتبار أنّ عفرين تقع في شرق نهر الفرات، والتي هي ضمن النفوذ الروسيّ، مقابل تمسك أمريكيّ بشرق الفرات ذي الأهميّة الحيويّة حيث مصادر الطاقة الرئيسيّة في سوريا.
التقاسم الأمريكيّ الروسيّ للنفوذ في سوريا، يجعل من احتمال البقاء الأمريكي وارداً في سوريا، وهذا ما يشكل مصدر خطر على علاقتها مع أنقرة، طالما أنها لم تنجح حتى الآن في تقديم حلول واقعية لحلّ القضيّة الكُرديّة في تركيا، وبالتالي بقاء حالة العداء بين أنقرة والكُرد في سوريا.
سيكون على الولايات المتحدة في هذه الحالة أنْ تُفاضِل بين حليفيها، السابق تركيا، والحالي الكُرد، مع الفشل في إيجاد توافق بينهما، وبالتالي فهي حتماً ستتخلى عن أحدهما، لتعود حِكمة تشرشل وتَصْدُق في الحالة السوريّة أيضاً.
(آلان حسن)