عند استعراض القوائم والتحالفات والأحزاب والائتلافات العراقية التي تستعد للانتخابات القادمة نجد بسهولة أن العراق القادم لأربع سنوات أخرى هو نفسُ العراق المحتل والمنهوب والمسروق الذي يديره قادة العملية السياسية الفاشلة مع الأسف الشديد.
فأكبر وأهم السياسيين الذين يمسكون بتلابيب العملية الانتخابية القادمة هم نفسُ الرؤساء والنواب والوزراء ورؤساء كتل البرلمانات السابقة ونوابُهم ووكلاؤهم، وقادة ميليشيات وشيوخ قبائل ومعممون. وقليل من هذه القوائم والائتلافات والأحزاب لا يستمد قوة صوته وجيبه من إيران أو أميركا، أو واحد أو اثنين أو ثلاثة من أجهزة المخابرات الخارجية.
ويمكن تلخيص الوضع الحقيقي للعراق من العام 2003، وسوف يستمر أربع سنوات قادمة، بأنه وليد ثقافة “امتلك السلطة لتملك المال، واستخدم المال لتملك السلطة”.
ولكن الأكثر إيلاما في هذه المَخبَزة الحارقة أن أي أحد من أصحاب السلطة لم يكن ممكنا له أن يمتلك هذه السلطة والمال لو لم تكن الأرض التي يمشي عليها صالحة للصيد، ومشجعة عليه. فلا يمكن أن يعيش حاكم فاسد في شعب غير فاسد. كما لا يستطيع حاكم عادل وشريف أن يستمر في حكم شعب لا يحب العدل ولا يقدر النزاهة، ولا يفرق بين طين وعجين.
والعتب، كل العتب، على الشعب العراقي ذاته، وليس على هذا الحشد السيء الممسك بتلابيبه من أكثر من ستة عشر عاما ويزيد.
وليست مفهومة ولا مهضومة أسبابُ صمته الطويل، كلَّ هذه السنوات العجاف، دون أن ينتفض ويقتحم قصور الذين خدعوه وينتقم لكرامته ولقمة عيشه مثلما كان فعَل مرات عديدة من قبل.
أليس هو شعب الآلاف من الرواد الخالدين في عوالم الثقافة والفكر والأدب والعلم والفلسفة والفن والسياسة، وشعب القادة العسكريين العظماء الذين خلدهم تاريخ الشجاعة والنزاهة والشرف والإباء؟
وأليس هو شعب المنظمات والأحزاب التي بهرت العالم وعلّمت الشعوب الأخرى فنون النضال من أجل العدالة والحرية والسلام؟
نعم. إن الملايين من العراقيين في العاصمة والمحافظات لم تُقصر في إظهار غضبها على المزورين والكذابين والمنافقين والجواسيس بالهتافات والكتابات والأحذية والحجارة، ولكن أين هي اليوم من مهازل الانتخابات المعيبة، وهي ترى نفس أصحاب الوجوه الفاسدة الذين خانوا الأمانة، وانحرفوا، وغدروا، واختلسوا، ونافقوا، وتاجروا بالطائفة والقومية والدين، يصولون، وحدهم، ويجولون؟
لا فرق بين كبير منهم وصغير، لا أفندي ومعمم، ولا أمي ومتعلم. فكلهم أصبحوا اليوم شرفاء يضعون كرامة المواطن ووحدة الوطن وحكم المؤسسات وسلطة القانون في رأس قائمة مبادئهم النبيلة الثابتة، ويشددون على توفير جميع الخدمات، وعلى احترام الرأي والرأي الآخر، ويصرون على محاربة الفساد، ويمسكون بالنزاهة والشرف والضمير.
الفرق الوحيد بين حملات دعاياتهم الانتخابية السابقة والجديدة أن المعممين السلفيين الطائفيين المتشددين أصبحوا، هذه المرة، ديمقراطيين ومدنيين وحداثيين وشعبـويين حتى العظم، لتـرضى عنهم سفارة أميركا وحلفاؤها ووكلاؤها، مع احتفاظهم برضا ولاية الفقيه وبركاتها. والعلمانيون أصبحوا إسلاميين مؤمنين لا تنقصهم سوى العمائم البيض أو السود أو الخضر لترضى عنهم سفارة الولي الفقيه، وليس سفارة العم سام وحدها، ولله في خلقه شؤون.
ترى من هو إذن الذي باع أراضي الوطن ومنابعه النفطية وموانئه، ومن الذي جعل نفسه وحزبه مخبرا سريا وعلنيا لهذه الدولة أو تلك، ومن الذي اختلس، ومن الذي هرَّب المختلسين، ومن الذي احتضن مزوري شهادات وعيّنهم حكاما ونوابا ووزراء، ومن أحيا الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، ومن الذي تاجر بالشعارات المذهبية والقبلية والمناطقية، ومن الذي حرض على الاحتراب الطائفي والعرقي والديني، ولا يزال، ومن الذي استباح المدن والقرى المحررة من تنظيم داعش ليفعل أضعاف ما فعله داعش بأهلها، ومن الذي سطا على العمولات والمصارف والشركات، ومن الذي هرّب النفط، ومن الذي احتل قصور الدولة وأملاكها وأراضيها، ومن الذي هرب الملايين من الدولارات والدنانير إلى دمشق وطهران وعمان وبيروت والرياض وجدة ودبي؟
إنهم هم. وسيعودون، جميعا، على رأس الوليمة من جديد، بكل عيوبهم وفضائحهم، ما ظهر منها وما بطن، والذي سيُعينهم على هذه العودة، غير المباركة، هو الناخبُ الجاهل والمرتشي والمأجور. أما المواطن الحر الثائر المنتفض على هذه المهزلة فمغلول اليد ومعقود اللسان، لا حول له ولا قوة ولا أمن ولا أمان.
نعم نحن متشائمون، ولا علاج لنا سوى أن نفيق ذات عام على قوة شعبية وطنية عراقية نظيفة كاسحة تستقطب الملايين من الغاضبين والمنتفضين والثائرين، مبرئة من الحزبية والشللية والطائفية والعنصرية والمصلحة الشخصية، ودون رشاوى ولا فتاوى، فتطرد المنافقين والمزورين، وتعيد وطنها إلى أهله سالما ومعافى، من جديد.
أما متى تولد هذه القوة فعلمُ ذلك عند رب قادر على أن يُخرج الحي من الميت، وهو أرحم الراحمين.