من المفيد تحليل التصريحات المحلية حيال اتفاق التعاون العسكري بين لبنان وروسيا، قبل تأجيل البحث به (يوم الثلثاء الماضي) وبعده على وقع ضغوط غربية استجاب إليها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في آخر لحظة. بيد أن فكرة اتفاق التعاون لم تُولد من عدم، ولا بد أنها جزء من استراتيجية متفق عليها مسبقاً بين موسكو وحلفائها الاقليميين والمحليين أيضاً!
والاتفاق كان قد عاد إلى مُقدمة الأجندة السياسية في لبنان بعد توجيهات رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفديف في الثالث من شباط (فبراير) الماضي، إلى وزارة الدفاع الروسية بالعمل على انجازه مع الجانب اللبناني. بصمت، انتقل الاتفاق إلى أجندة اجتماع الحكومة اللبنانية، وتسرّب خبر مُقتضب بأنها ستُفوّض وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف بالتوقيع خلال زيارته إلى موسكو مطلع الشهر الجاري.
وعندما بدأت الضغوط الغربية تأخذ مجراها، وتحديداً قبل أسبوع، أي في 25 الشهر الماضي، هاجم النائب عن "حزب الله" نواف الموسوي هزالة الجهود الأميركية لتسليح الجيش، وسأل "لماذا لا نتجه عوضاً عن ذلك شرقا باتجاه روسيا والصين، ونذهب لجلب السلاح من هاتين الدولتين العظميين اللتين تمتلكان قدرات تسليحية أثبتت كفاءتها في ساحة المعركة؟ ولماذا حتى الآن تمتنع الحكومة عن إبرام اتفاق تعاون استراتيجي مع الاتحاد الروسي؟ سوريا لديها علاقة مع الاتحاد الروسي، لماذا لا نشمل لبنان بالتغطية الجوية الروسية؟ وإن كان الاتحاد الروسي بحاجة إلى قواعد عسكرية ومطارات، فالأميركي يستخدم مطاري رياق وبيروت، فلماذا لا يمكن أن يستخدمها الروسي، وهذا السلاح الذي تمتلكه المقاومة هو انتاج روسي من الكورنيت وغيره؟".
الموسوي لم يتوقف هنا بل ذهب بعيداً في توقع نتائج التوقيع على الاتفاق مع روسيا، إذ رأى فيه مخرجاً للبنان من أزمته الاقتصادية. بحسب منطقه، فإن الحكومة "إذا بدأت ببحث اتفاق تعاون استراتيجي مع الاتحاد الروسي"، يعني مجرّد البدء بالتفاوض أي قبل التوقيع، "ستُحدث تحولاً استراتيجياً في المنطقة وفي لبنان، من شأنه أن يخرجنا من كثير من الأزمات بما فيها الأزمة الاقتصادية التي باتكالنا على حكومات غربية، لا نراها إلا تتعمق وتزداد تأزماً".
كل الحلول تكمن في توقيع اتفاق تعاون عسكري مع موسكو، وليس طهران. ذاك أن روسيا اليوم في حالة عداء واضحة مع الغرب بأكمله، وأظهرت قدرتها على العمل جنباً إلى جنب مع الإيرانيين في ايصال النظام السوري إلى شاطئ الأمان. ورغم الحديث عن توتر بين ايران وروسيا وخلافات على كعكة سوريا في ظل ضعف نظامها واعتماده على هاتين الدولتين للبقاء، لم تظهر أي نتوءات حقيقية في علاقتهما.
لعلّ دعوة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى تسليح الجيش اللبناني من إيران، بدلاً من الولايات المتحدة وحلفائها، كانت مقدمةً لطلب آخر: اللجوء إلى روسيا.
والحزب يفهم أكثر من غيره بأن التدخلات المباشرة والفجّة غير دائمة. في المقابل، فإن المواربة في تحصيل النفوذ ومراكمته، أكثر فاعلية. بالمنظور الطائفي اللبناني، إيران دولة اسلامية-شيعية، وروسيا قوة عُظمى ومسيحية، وتحظى بنسبة قبول أعلى في لبنان. والدليل أن دبلوماسيين غربيين ما زالوا يتساءلون عن سبب الموافقة الأولية للحريري على الاتفاق، ومنهم من يرى أن وراء ذلك تحليلاً غريباً مفاده أن موسكو ستفرض توازناً مع النفوذ الايراني وتُقوّض "حزب الله".
والأرجح أن العباءة الروسية لو نزلت على أكتاف لبنان ستذهب به سريعاً إلى موطئ قدمها الأول على البحر المتوسط: سوريا ونظامها. بيد أن رجالات روسيا في لبنان، والذين يكشفون عن وجوههم تباعاً، هم أيضاً على ارتباط بالنظام، وتحديداً من خلال رموزه المالية-الأمنية.
ليست المطالبة بتقارب مع روسيا منفصلة عن الضغوط باتجاه التطبيع الشامل مع النظام السوري، وعن اقحام البلد بقلب محور يُراكم التوتر مع أوروبا والولايات المتحدة. وإن كان الملف قد أُرجئ، فإن ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها.