" عيد الفصح " و " جمعة الآلام " و " عيد الميلاد " كلها أعياد ومناسبات مسيحية إعتاد عليها اللبناني كل عام بحكم الجغرافيا الصغيرة والتداخل الكبير بين سكانه من مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية .
وإن كان العيش المشترك هو قدر اللبنانيين ومادة دستورية وقانونية لا يجب المسّ بها ، إلا أن هناك أسئلة تُطرح دائما عن سبب تفاعل المسلمين في لبنان بشكل خاص مع هذه الأعياد والحرص على مشاركة المسيحيين بها ، لدرجة تظن أن العيد هو عيد إسلامي .
وَمِمَّا لا شك فيه أن هذه الظاهرة التي بدأت تكثر في السنوات الماضية هي ظاهرة جيدة تُلغي الحواجز بين الطوائف وتؤسَّس لمفهوم المواطنة الصحيحة فيما لو تم إستثمارها جيدها وتوجيهها بطريقة مناسبة .
إلا أن أسباب هذا التفاعل والحرص الإسلامي على إحياء المناسبات المسيحية كثيرة لا يمكن إختزالها بسبب واحد .
فطريقة تسويق هذه الأعياد خصوصا ومفاهيم الدين المسيحي بشكل عام والتي تعتمدها الكنيسة والمؤسسات المسيحية ، هي طريقة جاذبة للآخر المختلف وقائمة على مفاهيم إنسانية تشّكل عامل مشترك بين جميع بني البشر كالتسامح والغفران والإحساس بألم المسيح والمظلومية والدعوة إلى المحبة والعدل.
وهي تعتمد طريقة شفافة واضحة بعيدة عن العنف الذي إلتصق بالإسلام في آخر ٣ عقود بسبب ممارسات طائشة وخاطئة من قبل المحسوبين على تيار الإسلام السياسي.
إقرأ أيضا : ما هو أصل عبارة ( المسيح قام حقا قام )؟
ويلعب الإنتاج الفني من مسلسلات وأفلام ووثائقيات وصور ومقاطع فيديو قصيرة والأغاني والتراتيل دورا في إيصال الرسالة المسيحية وترك أثر وإنطباع جميل عند الآخر ، فالسينما العالمية ساهمت في إظهار صورة المسيح بطريقة جذّابة جعلت الجميع يتعاطفون مع الآلام التي تعرّض لها.
فمشهد حمل المسيح للصليب ومروره بأزقة أورشاليم الضيقة وجلده من قبل الجنود الرومان وتهشّم عظامه وتناثر الدم على أعضاء جسده وتاج الشوك الذي وُضع على رأسه ومن ثم صلبه وصراخه وتألمه وبكاء أمه السيدة مريم عليه ، كلها مشاهد عرف المسيحيون كيف يقدمونها للعالم بطريقة ساحرة جذبت العقول والقلوب .
أضف إلى ما تقدم ، فإن شخصية المسيح ومريم هي شخصية مشتركة مع الدين الإسلامي مع بعض الفروقات ، ولها مساحة واسعة في وعي وعقل المسلمين وبالتالي هي مقبولة وسهلة الإستيعاب والهضم إسلاميا .
وداخل الطوائف الإسلامية ، ترى الشيعة الأكثر تأثرا بمعاناة المسيح كونها تذكرهم بمأساة كربلاء وما تعرض له الإمام الحسين ، وهم يقومون ببعض الإسقاطات والمقارنات ، كفكرة سيدة نساء العالمين التي ينسبونها إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد أسوة بالسيدة مريم ، كذلك تخلي الأمة عن الحسين كما تخلت أمة اليهود عن المسيح ، وتعرضهما لمظلومية كبيرة .
إقرأ أيضا : هل الغرب من صنعنا وحوشًا؟
ويصل هذا التأثر إلى موضوع الطقوس ، حيث تتشابه الطقوس المسيحية والشيعية بدرجة عالية وما يجري فيها من ممارسات كتعذيب النفس وجلد الجسم وإدماء الرؤوس والإنشاد الديني.
وفي الآونة الأخيرة ، إستجدّت ظاهرة بالمقابل وهي تفاعل بعض المسيحيين مع قضية كربلاء ومشاركة الشيعة في إحياءها وممارسة طقوسها أيضا.
ويكثر في الشرق الأوسط الحديث عن حلف الأقليات ، وهو حلف حقيقي قائم يجمع بينه الهواجس المشتركة من الآخر ، وهو هاجس عددي بالدرجة الأولى والمتمثل بالسنة الذين يشكلون بحرا في هذا الشرق ، وهو أيضا إنعكاس لمفاهيم دينية مشتركة بين الشيعة والمسيحيين تجد غايتها في قصتي المسيح والحسين .
لكن يبقى أبرز الأسباب في فهم ماهية هذا التعلّق الإسلامي بالأعياد المسيحية هو أن هذه الأعياد تصف مأساة ومعاناة المسيح وتستخرج منها مفاهيم الأمل والحب والفرح ، وهي مفاهيم يتوق إليها المسلم ولا يجدها في يوميات حياته.
فلا تكتفي المسيحية في إبراز مظلومية المسيح وآلامه ، بل تختم القصة بدروس وعبر للحثّ على الحب والتفاؤل والعمل والغفران والفرح والسعادة ، وهذا ما يحتاجه المسلم .
إقرأ أيضا : لماذا يزور المسيحيون 7 كنائس ليلة خميس الأسرار؟
يبقى أن هذا التعلّق الإسلامي بالأعياد المسيحية هو درس للمؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية لمراجعة آليات عملها وتطويرها والإبتعاد عن المناهج التعليمية التي تحرّض على العنف والإرهاب والتكفير ورفض الفكر الآخر وإستحقار المرأة .
وعلى المؤسسة الدينية الإسلامية ، خصوصا الشيعية منها ، رفع المحرّمات وكسرها وإظهار صورة الأئمة بطريقة قريبة للعقل وبعيدة عن الخيال ، والتركيز على بشريتهم وإحساسهم بالألم والوجع كباقي الناس ، لكي يقتنع أتباعهم أن قدوتهم في هذه الحياة هم بشر من لحم ودم لا ملائكة .