قسموا لبنان الى عدة دويلات وكلن منهم ينادي انا دولة
الديكتاتورية، القمع والاستبداد،التحكم بقرار السلم والحرب،في عصر السلطة الفاسدة في لبنان سمة من سمات اسياد الطوائف.
كل سياسي طائفي - حزبي يدير من مربعه الأمنية "حاشيته ومناصيره "، ولا تراه متوجساً أو مرتبكاً او مزعوجا في خلطه بين مسألتي الدين والدولة او اعلان سمومه المذهبية. بل على العكس تراه يقرر من يشارك، ومن لا يشارك في الحكم، ومن يعتكف، ومن يخالف،ومن يهول، ومن يحالف،ومن يهدد، ومن يناور عند اللزوم. وإذا كل منهم قرر شل البلد، قام بالتظاهرات، واحتل الساحات، وامر مناصريه باطلاق النار ،ورفع النبرة وتوعد بالتصعيد. وجر البلاد إلى حرب اهلية او اقليمية ،من دون استشارة أحد او الاخذ الاذن من احد ،فليس هناك رقيب او حسيب في هذا البلد المفلس حزبيا واقتصاديا وسياسيا والامثلة كثيرة وموثقة في كل المناطق اللبنانية وفي عقول كل الطبقة الفاسدة.
بعد هذه المقدمة إسمحوا الدخول إلى روح الملحمة الخالدة لمقاربة صغيرة ومقارنة بسيطة على ما يحدث في لبنان وما كان يحدث في الازمنة الغابرة التي افتخر واجاهر بالانتماء اليها "روحيا وعقليا" ،هذه الملحمة في الروح الحية التي تجذبنا إليها رغم البعد الزمني الكبير بيننا استهوتني بعض مقاطعها التي سقطت سهوا عن فكري بالرغم من دراستها بشكل معقم على مر السنين وهي "الحرية والديمقراطية التي كانت سائدة في ذلك العصر" وحتى يمكننا فهم طبيعة الحكم في اورك نتناول مسألة تتعلق بحياة الناس العامة، وكيفية اتخاذ القرارات بشكل جماعي فيما يتعلق بمستقبل المجتمع، إن كانت تلك الإجراءات المقترحة تتفق أو تتعارض سياسة الحاكم أو الملك، ونستطيع القول أن هناك نظام ديمقراطي وجد في مدينة اورك، تمثل في مجلس شيوخ (الحكماء) ومجلس شباب (المحاربين)، وكانا يعقدان الاجتماعات للنظر في أمر (أجا) حاكم مدينة كيش الذي أرسل مبعوثين إلى اورك، يحملون معهم إنذارا نهائيا لتسليم اورك للملك الغازي، وكان قرار الشيوخ تسليم المدينة، ولكن مجلس الشباب اجتمع وبحث الأمر ولم يوافق على التسليم، وقد أثبت قرارهم تاريخياً.
إن رسل (أجا) بن (أنميبارا جيسي)
ساروا من كيش إلى جلجامش في اوراك
وقال لهم:
" علينا ألا نذعن لبيت كيش ولنحارب بالسلاح
لكن مجلس شيوخ المدينة المنعقد " أجاب جلجامش:
" لنذعن إلى بيت كيش ولا نحارب بالسلاح
إن جلجامش سيد كلاب مرة أخرى"
عرض الأمر على محاربي مدينه وطلب القرار
فأجاب مجلس المحاربين المنعقد جلجامش
"لن نذعن لبيت كيش ولنضربه بالسلاح".
إن هذا الأسلوب الديمقراطي كان سمة ذلك العصر، ولم يكن لحاكم أن يتصرف بمصير الشعب كما يشاء كما يحدث في لبنان في عصرنا هذا ، وكان مثل هذه الاجتماعات تتكرر كلما تطلب الأمر، وها هو مجلس الشيوخ في اورك يجتمع للنظر في سفر جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز.
في الساحة العامة اجتمع الشيوخ
أنت شاب، والشباب كثير الحماسة
أنت طموح وطموحك ذهب بك بعيدا
سمعنا بأن خمبابا لا كسائر الخلائق
أسلحته ثقيلة لا تقهر
لخمبابا زئير كهدير الطوفان
النار تنبعث من فمه، يتنفس موتا
لا احد يجرؤ على الوقوف في وجهه.
نجد هنا المعارضة من الشيوخ بكل عنفوانها، فهم يخاطبون الملك بكلمات حادة " أنت شاب ... كثير الحماسة وطموحك ... بعيدا" وهذا يؤكد حرية الاختلاف وحرية الرأي وحرية المعارضة، وهذه المعارضة مبنية على حجج ومعلومات، وليس فقط لمجرد الاختلاف والمعارضة، فكان الخوف على جلجامش باني مدينة اورك وسيدها، من دفعهم لمثل هذا الكلام الغليظ، وجعلهم يذكرون أمامه معلوماتهم عن حارس الغابة ـ خمبابا ـ، الذي يمتلك قوة كبيرة تتجاوز قوة البشر بكثير،بمقارنة مع رجال الحكم في لبنان الذين أصبحوا فوق القانون وفوق السلطة وفوق كل طموحات الحكام في العالم من الزاوية السلبية.
هذا الحضور لمجلس الشورى في أورك يجعلنا نفتخر ونشعر بالإرتياح لما كنا عليه، ويجعلنا نندفع أكثر للمطالبة بهذا الفعل الاجتماعي ـ حرية الرأي ـ الذي يحمي لبنان من كافة الأخطار والتهديدات والمشكلات الداخلية والخارجية، ونندهش تماما عندما نفكر بهذه المدينة التي مارست فعل الديمقراطية قبل أكثر من 4700 عام، ونحن في هذا الزمن ـ العربي ـ مازلنا عاجزين وخائفين عن التقدم خطوة نحوه، وها هم الغربيون إلى غاية هذه الساعة ما زالوا يفتخرون بمجلس شيوخ روما، الذي تواجد في حدود 500 ق م، ونحن أصحاب مجلس الشيوخ والشباب قبلهم ب 2200، لا نذكر تاريخنا الديمقراطي المشرف، ولا نعرف عنه شيئا،فقط التاريخ الحديث يدون تخلفنا ورجعيتنا وانحطاطنا في كل الأمور الوطنية.
هذا على صعيد الديمقراطية في الحكم أو الشورى، أما في حالة النفور الشعبي من الحاكم وهي الاهم ، فكان يسمح للناس أن يشكوا همهم وطرح مشاكلهم ويتحدثوا عن سلبيات الحاكم بكل حرية وبدون أية ضغوطات أو تهديد، عكس ما يحدث في لبنان حتى على الصحافي او مقدم برامج حرمت عليه الديمقراطية في التعبير وهذا ما تخبرنا به الملحمة.
أشراف اوروك كئيبون في منازلهم
طغيانه لا يكبح إن بالنهار أو الليل
نواحهم أناتهم بلغت مسامع الآلهة في السماء.
من خلال هذه النصوص التاريخية يتأكد لنا نحن سكان الهلال الخصيب الذي لبنان جزء منها أننا أول الشعوب التي مارست حق المعارضة وإبداء الرأي بكل حرية وبدون خوف، ونحن أول من استخدم النظام الديمقراطي أو الشورى في العالم، فنحن السباقون في هذا المضمار، ونحن من علم الآخرين الديمقراطية. فالكلام واضح مثل عين الشمس، لا يحق لاي احد ان يستأثر بالسلطة بلبنان . هذا مع العلم أن زحمة رجال الدين والسياسة بشكل عام حول القرار السياسي، ومحاصرتهم له هي غير طبيعية، بل غير مرغوب فيها لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك لاعاقتها قيام النظام العلماني المدني المنشود. وإذ شكل النظام الطائفي الزنيم السافه المتحكم في لبنان، حتى اليوم، حاجزاً أساسياً أمام قيام النظام العلماني ،وتسعى الدول المنتدبة على لبنان إلى تصدير فكرها واطماعها إلى بلادنا ، كونه يشكل قفزة إلى الوراء، بالنسبة لطموحات اللبنانيين الساعية إلى التطور والاصلاح وإلى مواكبة الحداثة .
وإذا كان من بقايا للديمقراطية في هذا البلد، ومنها حرية التعبير عن الرأي، لا بد وتبعاً لايديولوجية "بلدان الانتداب" الشمولية، من الاجهاز المنهجي والمتواصل عليها، حتى لا يبقى على الساحة السياسية سوى صوت واحد، وموقف واحد، هو صوت وموقف من يزرع الصوت الطائفي ومن يغذي اللقاء المذهبي ومن يفرق لكي يسد . من هنا يمكن فهم الحالة المزرية التي نعيشها في لبنان ، "قسموا لبنان الى عدة دويلات وكلن منهم ينادي انا دولة".