قبل ستة أسابيع من اتخاذ الرئيس دونالد ترامب لقراره حول الاتفاق النووي مع إيران، تجمع الإشارات الآتية من واشنطن على بلورة استراتيجية احتواء طهران التي تكلمت عنها إدارته منذ أكثر من سنة. يدفع ذلك بالبعض إلى تغليب خيارات المواجهة بناء على التغييرات الأخيرة في فريق عمل البيت الأبيض وعودة الصقور إلى الساحة.
في المقابل، يبدو أن أوامر العمليات الصادرة من طهران تنعكس تصعيدا وعلى الأخص في جبهة اليمن. هكذا قبل منعطف الثاني عشر من مايو، لا يُعيرُ صانع القرار الإيراني كل الاهتمام للدفاع عن خطة العمل المشتركة (الاسم الرسمي للاتفاق النووي الموقع في 15 يوليو 2015) بل يتنبه أكثر للتحدي الداخلي الذي استمر في التصاعد منذ احتجاجات أواخر العام الماضي، ولذلك يخشى أرباب الثورة الإسلامية الإيرانية مسعًى أميركيًّا لتغيير النظام أكثر مما يخشون عمليةً عسكرية ضد منشآتها النووية أو أي مجابهة مباشرة بحرا أو برا.
تتقاطع الدلائل في الفترة الأخيرة على قرار أميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي:
التغييرات السياسية التي أجراها الرئيس الأميركي في إدارته مع تركيب فريق متجانس ومتشدد من خلال تعيين مايك بومبيو بديلا عن ريكس تيلرسون في منصب وزير الخارجية، والسفير جون بولتون مستشارا للأمن القومي بدلا من الجنرال هربرت ماكماستر. وبولتون صاحب المواقف المتشددة الداعية إلى وجوب إيقاف شرور إيران كما يقول وتجفيف تمويلها للإرهاب العابر للحدود وضرب حلفائها ومنهم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا.
فشل الجانب الأوروبي في تقديم حوافز تمنع سيد البيت الأبيض من تنفيذ وعيده، إذ لم تتمكن باريس ولندن وبرلين خلال اجتماع مغلق لسفراء دول الاتحاد في بروكسيل، في 28 مارس، من انتزاع موافقة بالإجماع على خطة عقوبات محدودة تشمل حظر سفر وتجميد أصول 15 إيرانيا وشركات وجماعات ربما فيها أعضاء في الحرس الثوري الإيراني، وذلك تبعا لاعتراض عدة دول أبرزها إيطاليا وإسبانيا (لأسباب متصلة بالعلاقات الاقتصادية وبانعكاسات العقوبات الجديدة) علما أن العقوبات الجديدة لن تمسّ تدابير رُفعت بموجب الاتفاق النووي.
منح الأولوية للتهديد الإيراني ضمن محور الشر بعد المناخ المستجد في شبه الجزيرة الكورية والقمة المنتظرة بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون.
التوتر غير المسبوق بين الغرب وروسيا بعد الطرد المتبادل للدبلوماسيين، والذي يمنح الرئيس الأميركي فرصة لإبراز قيادته من دون انتقاد أو تحفظ من الأوروبيين الموقعين على الاتفاق. تقييم الحلفاء الإقليميين المتناغم مع تقييم الرئيس ترامب والمحفز له في مقاربة مجمل السياسة الإيرانية.
الأوضاع الداخلية الأميركية قبل انتخابات نصف الولاية، والبلبلة داخل الإدارة مع مسلسل التغييرات فيها وشبح روسيا غيت. وهذه المتاعب الداخلية تبرر تشددا خارجيا.
أيا كان القرار سواء انسحب ترامب من الاتفاق النووي أو لم ينسحب، تعتبر الأوساط الدبلوماسية الأميركية أن “النهج المتشدد الذي أسفر عن تراجع بيونغ يانغ سيأخذ أشكالا أخرى مع طهران”. وعلى الأرجح سيتوازى السعي لتحجيم واحتواء نفوذ طهـران الإقليمي مع التركيز على الوضع الاقتصادي والمعيشي الإيراني المتردي.
استنادا إلى ما يجري من تحركات احتجاجية متواصلة منذ 28 ديسمبر 2017، سيكون الضغط الاقتصادي وسيلة للي ذراع إيران أو لجذبها نحو بعض التنازلات كما حصل خلال المفاوضات النووية. بيد أن التعويل على أطروحة “تغيير النظام” وزعزعة الاستقرار الإيراني، يمكن أن تمثل ذريعة لجنرالات الحرس الثوري كي يذهبوا بعيدا في التصعيد الإقليمي حيث سيواجهون احتمال استخدام القوة الأميركية في بعض مسارح النزاعات وخاصة تلك التي تمثل تهديدا لإسرائيل وللمصالح العليا الأميركية وحينها يمكن للجانب الإيراني أن يقع في فخ المواجهة كما حصل في أواخر حرب العراق ــ إيران عام 1988 عندما هددت البحرية الإيرانية خطوط الملاحة الدولية وكانت النتيجة خسارة إيران للحرب.
يتجه فريق ترامب المتشدد (اعتبر ستيفن والت الأستاذ في جامعة هارفارد، والأوبامي الهوى أن التعيينات الترامبية تمثل عودة إلى التشينية -نسبة إلى ديك تشيني- ونهج المحافظين الجدد في حقبة جورج بوش الابن) لتنفيذ أجندته ضد إيران مع إدراك لمنسوب التحدي والتداعيات.
وكان ملفتا منذ فترة تصريح عضو مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور ليندسي غراهام الذي أشار إلى أن “إيران تنتصر في الشرق الأوسط بينما الولايات المتحدة وحلفاؤها يجرّون أذيال الهزيمة، وأن إيران بمساعدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تمضي قدما، بينما لا تزال الولايات المتحدة وإسرائيل عند النقطة نفسها”. وهذا دفع أيضا رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، السيناتور الجمهوري بوب كوركر، إلى توقع الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، بعدما كان من المدافعين عنه، وتُجمِع الكثير من الأوساط في واشنطن على الدعوة إلى تشديد الضغوط على إيران في الخارج والداخل لتجنب المواجهة العسكرية.
في هذه الأثناء، ينذر الوضع الإقليمي المتأزم، خاصة في سوريا واليمن، بأخذ إدارة ترامب إلى خيار مواجهة مقننة لأن استمرار الحوثيين في إطلاق الصواريخ ضد المدن السعودية يبرهن على أن البرنامج الصاروخي الباليستي لإيران يمثل تهديدا للاستقرار الإقليمي والعالمي. وإذا صحت التسريبات التي تفيد بـ”قيام طائرتين حربيتين إسرائيليتين من طراز أف35 بطلعات في الأجواء الإيرانية خلال الشهر الجاري بهدف الاستطلاع في مناطق بندر عباس وأصفهان وشيراز، والتحليق على ارتفاع كبير فوق مواقع أخرى يشتبه في علاقتها ببرنامج إيران النووي على شاطئ الخليج” فهذا يعني أننا إزاء حالة من التهويل واستعراض القوة وربما البعث برسالة مفادها أن “خطة ضربة عسكرية أميركية وإسرائيلية في سوريا ضد المواقع الإيرانية هناك ربما تصيب إيران نفسها”.
تتعدد السيناريوهات عن ربيع ساخن في الشرق الأوسط والخليج العربي، لكن الاحتمالات تتراوح تبعا لأولويات صناع القرار وللمخاطر المترتبة في حقبة الاضطراب الغربي مع روسيا. بيد أن واشنطن التي سهلت ارتقاء إيران إلى قوة إقليمية مؤثرة بسبب حربي أفغانستان والعراق والحرب ضد (داعش) تجد نفسها أمام هدف احتواء طهران الذي لا يبدو سهل المنال.