رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عدل عن فكرة المشاركة وترؤس الوفد اللبناني تاركاً المهمة لرئيس الحكومة سعد الحريري. وفيما حرصت مصادر القصر الجمهوري على عدم إعطاء أيِّ بعد أو خلفية لعدول الرئيس عن مشاركته عازيةً الأمر الى أنّ رئيس الحكومة كان هو الذي يترأس الوفد اللبناني الى المؤتمرات المشابهة، إلّا أنّ أوساطاً مراقبة أدرجت هذا القرار الرئاسي في إطار المؤشرات التي بدأت تظهر من الدول الأساسية الراعية للمؤتمر.
فهي تشدّد كثيراً على انّ مؤتمر "سيدر" لاعلاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمؤتمرات باريس واحد واثنين وثلاثة التي كانت تتضمّن منَحاً تتصرّف الحكومة اللبنانية من خلالها. أما "فلسفة" مؤتمر "سيدر" فتقوم على فكرة القروض والاستثمارات والتي سيشارك القطاع الخاص في جزءٍ منها، والأهم تلك التوصيات التي وجّهتها باريس والعواصم الكبرى والتي تقارب التنبيه وتتلخّص بمطلبين: إصلاحات وشفافية، وبعبارة اوضح: "أوقفوا الفساد لكي نستطيع إنقاذَكم في وقف انهيار بلدكم".
هذا الإنذار الأوروبي فعل فعله ودفع بالمسؤولين اللبنانيين الى التفاهم على إنجاز الموازنة. هو حدثٌ كان من المفترض أن يكون استحقاقاً عادياً وطبيعياً ومن ضمن مسؤوليات الدولة اللبنانية.
لكنّ الموازنة لا تبدو "شفافة" في رأي الخبراء وهو ما يعزّز إقتناع العواصم الغربية بأنّ الفساد بات سلوكاً في لبنان لا حالة عَرَضية.
وصحيح أن لا علاقة مباشرة بين مؤتمرَي "سيدر" وروما إلّا أنّ النتائج المتواضعة التي سجّلها المؤتمر الإيطالي المخصّص لدعم الجيش اللبناني حمل تنبيهاً مزدوجاً الى السلطة السياسية لا المؤسسة العسكرية.
التنبيه الأول والقاضي برفع يد المسؤولين السياسيين وتأثيرهم وضغوطهم على المؤسسة العسكرية وعدم إدراج الجيش في سياق التجاذبات الداخلية.
أما التنبيه الثاني فهو بعدم ثقة الجهات الدولية بشفافية الحكومة اللبنانية حول تعاطيها مع المبالغ الممنوحة للجيش اللبناني.
ولكنّ ذلك لن يؤثر على القرار الدولي الذي يعطي الأولوية لحماية الجيش اللبناني ومساعدته، ذلك أنّ كلّاً من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تتولّى تأمين كل ما يحتاجه الجيش من خلال قنوات التعاون والتواصل الخاصة القائمة بين هاتين الدولتين وقيادة الجيش اللبناني.
من زاوية تحذيرات مؤتمر روما يمكن مقاربة مؤتمر "سيدر". وبخلاف التوقعات اللبنانية فإنّ مشروع مؤتمر "سيدر" سيكون على ثلاث مراحل. والمرحلة الاولى التي ستُعقد من خلال مؤتمر "سيدر" واحد بعد أيام ستشهد موافقة غربية على قروض ميسّرة واستثمارات بقيمة تراوح بين أربعة وستة مليارات من الدولارات، وليس كما تعتقد، أو ربما يأمل بعض الجهات اللبنانية، بأرقام تفوق 16 مليار دولار.
وستكون مدة كل مرحلة نحو خمس سنوات. ولكن سترفع الدول المشارِكة صوتها ونبرتها طلباً للشفافية والإصلاحات. وستطلب هذه الدول برنامج إصلاحات من أجل فتح باب الاستثمارات. وخلافاً للتوقعات فإنّ إنجاز الموازنة مسألة مهمة شكلاً، لكنها لا تؤمّن إقتناع العواصم الغربية بوجود نيّة فعلية للإصلاحات الحقيقية. مجرد ماكياج لا أكثر.
تطرح هذه العواصم برنامج إصلاحات في الإطار القانوني والقضائي ايضاً وفي المياه حيث لا يزال هذا القطاع بدائياً ومتخلّفاً وفي الاتّصالات والطاقة.
ولم يكن من باب المصادفة مبادرة مؤسستين إعلاميتين أوروبيتين عريقتين إجراء تحقيقين في لبنان أحدهما عن مجلس الإنماء والإعمار والآخر عن الكهرباء، والتركيز على مبدأ الشفافية وطريقة انتظام العمل وسيُنشر التحقيقان تزامناً مع انعقاد مؤتمر "سيدر" واحد.
ولأنّ القطاع الخاص الدولي ستكون له حصة استثمارية فإنّ العواصم الغربية ستتمسّك بالقيود القانونية الصارمة التي يطلبها في العادة القطاع الخاص.
وفي خطوة استباقية أدرجت الحكومة اللبنانية على جدول أعمال جلستها المقبلة بنداً يتعلّق بتسهيل عمل المجلس الأعلى للخصخصة وتفعيله ليتوافق مع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ولا تقتصر "فلسفة" مؤتمر "سيدر-1" على الجانب الداخلي البحت وإعادة تركيز البنية التحتية المتخلّفة للدولة اللبنانية، بل وربما خصوصاً، الى الجانب الإقليمي ووظيفة لبنان في هذا الصدد. فهنالك شبكة مواصلات جديدة، وأيضاً سكّة الحديد، وهذا الجانب سيضع في الحسبان ربط لبنان جيداً مع الجوار السوري الذي سيشهد في يوم ليس ببعيد ورشة إعادة الإعمار والتي ستستمرّ لعقود عدة بعد الحرب المدمّرة التي حصلت وما تزال مستمرة.
وهذه الخطة لشبكة المواصلات لن تكون غايتُها اقتصادية فقط، بل سياسية وديموغرافية خصوصاً. وفي تقديرات البنك الدولي وفق تقرير أعدّه أخيراً أنّ الحرب في سوريا دمّرت نحو 7 % من المساكن تدميراً كاملاً وألحقت أضراراً بـ 20% منها، عدا المرافق الإدارية والبنى التحتية، كما أنها دمّرت آلاف المنشآت الصناعية وأنّ إعادة الإعمار تحتاج الى ما يقلّ عن تريليون دولار أميركي. كما أنّه قُتل زهاءَ نصف مليون شخص وأنّ نحو نصف السوريين أصبح نازحاً إما خارج سوريا أو حتى داخلها.
أما بالنسبة الى شبكة خطوط سكة الحديد فإنها تحاكي إعادة الإعمار في سوريا، ولكنها تحاكي ايضاً ما بات يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد" أو مرحلة ما بعد التسوية الإسرائيلية ـ العربية، فهذه الشبكة ستكون في محاذاة الساحل وستشكّل الوصلة الإلزامية لربط اوروبا بالساحل الافريقي عبر سوريا ولبنان واسرائيل.
وسيزور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واشنطن قريباً للقاء نظيره الاميركي وهو الطامح لأن تستعيد بلادُه دوراً مميّزاً في الشرق الأوسط وانطلاقاً من لبنان بالتفاهم مع الولايات المتحدة الاميركية. ولهذه الغاية باشرت باريس توسيع عديد ومهمات فريقها العامل في لبنان على كل الصعد، وهي تريد أن تكرّس هذا الدور بدءاً من رعايتها مؤتمر "سيدر" وما سيليه من مؤتمرات قد يكون طابعُ بعضها سياسيّاً.
ولذلك ربما آثر ماكرون تأجيل زيارته للبنان الى ما بعد الانتخابات النيابية حيث سيقوم بجولة تشمل، اضافة الى لبنان العراق الذي سيكون قد أنهى لتوّه أيضاً انتخاباته النيابية، وأرسى المعادلة السياسية الجديدة.