تضمنت موازنة 2017 سلّة ضرائب كان يؤمل منها أن تؤدي إلى تصحيح جزئي لاختلال توزيع الثروة في لبنان، فطاولت للمرّة الأولى ــ وإن بنسب متواضعة ــ النشاطات الريعية العائدة لحيتان المال والعقارات، إلا أنه بعد بضعة أشهر أطفأت قوى السلطة نتائج هذا التصحيح الجزئي عبر إضافة مواد في مشروع موازنة 2018 تتيح لكبار الحيتان وصغارهم إجراء تسويات على الضرائب والغرامات المتوجبة عليهم عن سنوات مضت. كذلك تضمّن مشروع موازنة 2018 ألاعيب حسابية مستحدثة تسمّى «هندسات مالية» لإخفاء حجم العجز الحقيقي مراعاةً لاعتبارات عدة، أبرزها انعقاد مؤتمر «باريس 4» في نيسان المقبل.
الموازنة بصيغتها النهائية تتضمن نفقات بقيمة 23891 مليار ليرة، وإيرادات بقيمة 18686 مليار ليرة. وهناك موازنات ملحقة بقيمة 2827 مليار ليرة. أما العجز المذكور في أرقام الموازنة، فيبلغ 5204 مليار ليرة، وهناك عجز مبطّن بقيمة 2100 مليار ليرة هي عبارة عن تحويلات من الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان لدعم تعرفة الكهرباء. بالإضافة إلى ذلك، هناك خدمة دين بقيمة 8400 مليار ليرة، ونفقات استثمارية بقيمة 2136 مليار ليرة، منها 726 مليار ليرة نفقات إنشائية بواسطة قوانين البرامج.
وينطوي مشروع موازنة 2018 على أربعة محاور: الهندسات المالية، التسويات والإعفاءات الضريبية، تأجيل النفقات، اقتطاع ضريبي مبطّن من مداخيل موظفي القطاع العام.
ــ الهندسات المالية تشكّل المحور الأبرز. فقد أجيز للحكومة إصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية بقيمة لا تتجاوز 6 مليارات دولار ضمن هدف إعادة هيكلة الدين العام. وبحسب ما اتفق عليه في مجلس الوزراء، فإن وزارة المال ستستبدل سندات دين بالليرة مقابل سندات دين جديدة بالعملات الأجنبية. بمعنى آخر، سيُحوَّل دين بقيمة 6 مليارات دولار من الليرة إلى الدولار ويصبح مصرف لبنان حاملاً هذا الدين ويمكنه بيعه في الأسواق. سينتج من هذه العملية إخفاء لقسم من الدين في ميزانية مصرف لبنان، وسيزيد تركّز الدين بالعملات الأجنبية، أي ستزداد الحاجة لاستقطاب الدولارات.
ــ التسويات والإعفاءات الضريبية. هذا النوع من تشريع التهرّب الضريبي يأتي للمرّة الثانية منذ نهاية الحرب الأهلية. ففي عام 2001، أقرّ تشريع مماثل كان يهدف إلى منح كل المتهرّبين عفواً عاماً عن كل ارتكاباتهم المالية بموازاة حصول معظم مجرمي الحرب، على عفو عام عن ارتكاباتهم.
اليوم هناك صورة أبشع، فالعفو المالي والضريبي يأتي بعد مرور بضعة أشهر على إجراءات ضريبية أقرّت في 2017 تطاول بعض النشاطات التي كانت سابقاً تحظى بحمايات كبيرة أبعدت أرباحها عن الاقتطاع الضريبي. إلا أن هذا الأمل في التصحيح الضريبي على مستوى إعادة توزيع الثروة، يضيع في حال صدور هذه السلّة من الإعفاءات والتسويات الضريبية التي يستفيد منها خصوصاً «حيتان المال» وكبريات الشركات العقارية.
رغم ذلك، برزت إشارات في الجلسة النيابية أمس عن عدم قدرة قوى السلطة على تمرير هذه السلّة من الإعفاءات الضريبية من دون تنفيس الرأي العام المحتقن من أخبار السرقة والهدر والفساد. وبالتالي برز توجّه لتأجيل هذه السلّة وتقديمها بمشروع قانون منفصل عن الموازنة لمناقشتها لاحقاً في المجلس النيابي.


وبحسب مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المال، أمين صالح، فإن الأثر الناتج من هذه التسوية هو إطفاء الأثر الفعلي للضرائب التي أقرّت في السنة الماضية والتي طاولت العقارات والمصارف وكبار الشركات، فيما سيبقى الأثر الناتج من ضريبة القيمة المضافة «وإن قلنا بحسن نيّة فإن إقرارها هو خطأ يؤدي إلى الهدر والفساد وأنه لا يمكن إنجاز موازنة بناءً على أمر فرنسي»، مشيراً إلى أن «قوى السلطة لا يمكنها خفض الدين».
ــ تأجيل النفقات. فقد جرى الاتفاق في اللجنة الوزارية على إعادة توزيع المبالغ المالية المقرّة ضمن قوانين برامج على السنوات اللاحقة. فعلى سبيل المثال، اقتطعت 45.5 مليار ليرة من الدفعة المتوجبة في 2018 من قانون برنامج لرئاسة الوزراء من أصل 50 مليار ليرة، وأجلت 22 مليار ليرة كانت مدرجة ضمن قانون برنامج لوزارة التربية إلى عام 2019، والاستملاكات سيدفع منها 97 مليار ليرة في 2018 بعدما كانت 120 مليار ليرة في 2017... واتفق أن تسترد الخزينة سلفات مالية من مؤسسات عامة. الهدف إجراء نفخ اصطناعي للإيرادات وإخفاء مقنّع لبعض النفقات لخفض العجز.
ــ اقتطاع ضريبي مبطّن من مداخيل موظفي القطاع العام وخفض البنود التشغيلية. هذه النقطة أخذت حيّزاً واسعاً من النقاش. فتارة عمدت اللجنة الوزارية إلى مناقشة وقف العمل بالتدبير رقم 3 المتعلق بالعسكريين نظراً لأنه يخفض كلفة الرواتب إلى أكثر من النصف، إلا أن هذا الاقتراح تأجل، لكن ضُمِّنَت الموازنة موادّ لخفض تعويضات أعمال اللجان، وخفض المكافآت السنوية للموظفين... أي إن بعض ما حصل عليه موظفو القطاع العام في 2017 بدأت السلطة تستردّه في 2018.
وكانت اللجنة الوزارية المكلفة درس الموازنة، قد أجمعت على اتخاذ إجراءات لخفض العجز، أبرزها خفض 20% من الموازنات. تبيّن أن الخفض المتاح لا يتعدّى 6% في أحسن أحواله، لأن أكثر من 70% من إنفاق الموازنة مصدره الرواتب والأجور وملحقاتها، خدمة الدين العام، ودعم الكهرباء.
بهذه الطريقة أجريت عمليات حسابية تجميلية أبقت العجز بشكل اصطناعي ضمن حدود المسجّل في موازنة السنة الماضية، إلا أن معرفة العجز الفعلي تتطلب إنجاز قطع الحساب، وهو ما لم يحصل حتى الآن. وما بين النسخة الأولى للموازنة التي قدمتها وزارة المال للأمانة العامة لمجلس الوزراء، وبين النسخة الأخيرة التي عممتها الأمانة العامة لمجلس النواب في الجلسة العامة، تبيّن أن هناك زيادة في الإيرادات بقيمة 1000 مليار ليرة لا أحد من النواب لديه فكرة عن مصادرها.