المرحلة الأولى شكلت استكمالاً لانطلاقتها وعلّة وجودها وتتصل بالجانب السيادي، حيث تعتبر «القوات» أن لا قيامة للبنان، ونحن في زمن القيامة، سوى في قيام دولة فعلية تبسط سيطرتها منفردة على كل الأراضي اللبنانية وتُمسك بالقرار الاستراتيجي، وبالتالي ستبقى تناضل من أجل تحقيق هذا العنوان حتى قيام الساعة.
المرحلة الثانية شكّلت ترجمةً لرؤيتها الميثاقية التعايشية للبنان النموذج، حيث بادر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع إلى رفع عنوان الشراكة الذي لم يتحقّق لا في انتخابات العام 2005 ولا في انتخابات العام 2009، وقال حرفياً بعد العام 2010 وبعد أن لمس إمعاناً في استمرار الخلل إنّ الشراكة بمثابة السيادة، وقد شكل موقفه نوعاً من صدمة سياسية لدى القوى التي تريد استمرار الخلل لأهدافها السلطوية والتي نجحت بتجميع بعض القوى السياسية لمحاربة طرح «القوات» وحرف الأنظار عن أهدافه الحقيقية التي تتجسّد في صورة لبنان الفعلية والذي لا يقوم على توازنات شكلية ولا على مشاركة صورية، إنما يقوم على شراكة فعلية تجعل من لبنان وطن الرسالة والنموذج بالفعل لا بالقول.
المرحلة الثالثة شكّلت تتمّةً طبيعية لنظرتها إلى مشروع الدولة الذي يجب أن يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية: سيادة وشراكة وشفافية، وإذا كانت ظروفُ البلد في السنوات الأولى على الخروج السوري من لبنان لم تسمح برفع عنوان الفساد إلى مرتبة السيادة والشراكة، فإنّ المشاركة الخجولة لـ«القوات» في حكومات ما بعد خروجها من المعتقل مكّنتها من معاينة الواقع المهترئ للدولة ودفعتها إلى اتّخاذ قرارها الكبير منذ سنوات بوضع عنوان مكافحة الفساد من ضمن أولوياتها النضالية الأساسية.
والهدف من مكافحة الفساد بالنسبة إلى «القوات» مثلّث الأضلع:
الهدف الأول تعزيز ثقة الناس بوطنهم ودولتهم، لأنّ الدولة الفاسدة تجعل الناس غير مبالين بمصير الدولة والوطن، فيضعف الشعور الوطني وتنهار المؤسسات عند أيّ مفترق أو تحوّل.
الهدف الثاني اعتماد سياسة صمود من أجل إبقاء اللبناني في أرضه، حيث إنّ اللبنانيين وفي ظلّ الحروب الساخنة حيناً والباردة أحياناً وعدم الاستقرار الثابت يشعرون أنّ الهجرة باتت سبيلهم الوحيد، خصوصاً أنّ الفساد المستشر وغياب الخدمات البديهية والعجز في كل المجالات والقطاعات ساهم إما في خضوع الرأي العام لسياسة الأمر الواقع، أو في هجرته، وفي الحالتين هناك كارثة على البلد، ولذلك يجب في ما هو بمتناول اليد مبدئياً الذهاب باتّجاه تطبيق القوانين المرعيّة بغية إعطاء فسحة من الأمل للناس.
الهدف الثالث لا يخرج عن سياق بديهيات الأمور، حيث إنّ الفساد يجب أن يشكّل استثناءً لا قاعدة والعمل على مواجهته بشتى الطرق والأساليب، ولكن، ويا للأسف، تحوّل في العقود الأخيرة إلى قاعدة باتت تهدّد الدولة بالانهيار على رؤوس الجميع.
وفي اللحظة التي نجحت فيها «القوات اللبنانية» في تحقيق مشاركة وازنة في الحكومة عملت على تطبيق رؤيتها الإصلاحية خلافاً لمعظم القوى السياسية التي تأخذ من محاربة الفساد العنوان أو الشعار فقط من دون الترجمة على أرض الواقع، فلم تهادن أيَّ طرف سياسي لا خصماً بطبيعة الحال ولا حليفاً، بل أرست قاعدة جديدة في مقاربتها للشأن العام عنوانها عدم الخلط بين التحالفات السياسية ومكافحة الفساد ومواجهة أيّ فريق لا يلتزم بالقوانين المرعيّة.
وفي هذا الوقت بالذات وعشية الانتخابات النيابية فاجأ السيد حسن نصرالله الرأي العام اللبناني ببرنامج انتخابي يرتكز على مكافحة الفساد، وهذه أوّل إطلالة لـ«حزب الله» بهذا الاتّجاه، حيث إنّ وثائقه سياسية وايديولوجية الطابع، وبالتالي إذا كانت الأسباب الموجبة لرفع «القوات» هذا العنوان انسجامها مع نفسها وروحيّتها وسعيها لقيام دولة تحصِّن حقوق الناس وتثبتهم بأرضهم، فإنّ الأسباب الموجبة التي دفعت «حزب الله» إلى رفع عنوان التصدي للفساد يمكن اختصارها بشكل أو بآخر بالآتي:
أولاً، خروج الحزب للقتال في سوريا دفعه للمرة الأولى منذ العام 2005 إلى تبريد الجبهة الداخلية والتراجع عن سعيه الإمساك بالسلطة أحادياً وبالقوة، وكل ذلك من أجل أن يتفرّغ لقتاله السوري وترييح بيئته الداخلية، وهذا الترييح الذي كان أمنياً فقط تحوّل في السنوات الأخيرة إلى اقتصادي في ظلّ النقمة المتصاعدة داخل بيئته.
ثانياً، لمَس الحزب لمْس اليد أنّ مواصلة دوره «المقاوِم» تستدعي تحصين بيئته وإلّا سيصطدم بهذه البيئة التي تعتبر أنّ أولويتها لقمة عيشها لا أدوار خارجية تستنزفها حتى لو كانت ضرورية، بالنسبة إلى قسم من هذه البيئة طبعاً، ولكنّ الأولوية تبقى للقمّة العيش والاستمرارية.
ثالثاً، أجرى الحزب استطلاعات عدة أخيراً بقيت بعيدة من الإعلام لمعرفة مزاج بيئته، وقد أظهرت تلك الاستطلاعات انّ أولويّة بيئته لم تعد للمقاومة، بل أصبحت للوضع المعيشي والمالي والاقتصادي والفساد، الأمر الذي كان بمثابة المفاجأة والخطر الذي يستدعي معالجة فوريّة.
رابعاً، كان يعتبر الحزب انّ دوره «المقاوم» يعفيه من تحمُّل مسؤولية الملفات الداخلية إلى أن وجد انّ بيئته لم تعد توافق على هذا الفصل بين دوره «المقاوم» وترفّعه الداخلي، ولو لم يبادر إلى الإعلان عن استعداده الكلّي للانخراط في عملية مكافحة الفساد بعد الانتخابات لكان واجه بتصويت اعتراضي او بالامتناع عن التصويت.
خامساً، يدرك الحزب انّ الوضع الاقتصادي على شفير الإفلاس في حال لم تتّخذ الدولة خطوات استراتيجية وبنيوية، وهو يدرك انّ الإفلاس يعني وضع المجتمع الدولي يده على لبنان، ما يشكّل مدخلاً إلزامياً لتسليم سلاحه مقابل إعادة ترتيب أوضاع لبنان المالية، وحيث تصبح أولوية الناس لقمة عيشها لا مقاومة ولا مَن يحزنون.
وإذا كانت تقاطعت «القوات اللبنانية» و«حزب الله» على أولويّة مكافحة الفساد، فإنّ الفارق الأساس بينهما يبقى في انّ «القوات» تريد تحصين البيئة اللبنانية لمواصلة معركتها السيادية نحو قيام دولة فعلية، فيما «حزب الله» يريد تحصينَ بيئته الحزبية لمواصلة دوره «المقاوِم»، وشتان ما بين الأولويّتين.