تمّ إدراج هذا الإقتراح في مشروع قانون الموازنة للعام 2018 وتمريره بحنكة من خلال غرف الظلمة والظُلمِ والظلامية وتكتل المصالح التي أضحت سلطات مرادفة وموازية وأحياناً مرجحة على الوزارات نفسها.
ولتبسيط الشرح يمكن تلخيص هذا الإجراء، بالقول أنه سوف يسوّي وضع جميع المكتومين والمخالفين والمتهربين والمتقاعسين بصورة نهائية وشاملة بإبراء ذمتهم لغاية تاريخه من أي مسؤولية أو ملاحقة لقاء تسديدهم قيمٍ زهيدةٍ لا تُغني الخزينة ولا ترفدها بكتل نقدية مهمة من شأنها تخفيض الدين العام أو خدمته بصورة ملحوظة ليتثنى من ثم توسيع نطاق الاعتمادات الاستثمارية والاجتماعية التي تؤمن التنمية المستدامة والرفاهية للمواطنين؛ فضلاً عن عدم تناسب هذه الإيرادات الاستثنائية المرتقبة مع حجم المخالفات وهول ظاهرة التهرب المتعمد والإحتيال الموصوف؛ كل ذلك، على شاكلة «عفى عن ما مضى ويلي ضرب ضرب والهرب هرب»... ضاربين عرض الحائط جميع مبادئ الإنصاف والعدالة والمواطنية النزيهة والشريفة والمتكافئة.
ولا تفيد هنا، للتبرير أو حتى للتذاكي، الذرائع التي يتغنّى بها البعض إن لجهة أن تلك التسوية المشؤومة تندرج ضمن سلّة شروط ومطالب دولية بتوسيع قاعدة المكلفين وتحسين حجم الواردات الضريبية، أو لجهة أنها سوف تعالج مسألة التكاليف الاستنسابية والتعسفية وتضع حدا للتجاوزات العديدة التي لطالما إشتكى منها المكلفون وغالباً عن حق؛ ولكن... ولكن، لا يسوى الخطأ المجحف بخطأ أفضح يفاقم الورم بدلاً من استئصاله.
والدليل على ذلك، ما سبق وأعطي من تبرير مشابه إلى حد التطابق يوم تمت المصادقة على آخر قانون للتسوية رقم 384 تاريخ 14/12/2001 (مع العلم أن التسوية المذكورة وردت في حينه بموجب قانون خاص مستقل جرى درسه بتمعن وأقرّ بعد نقاش مستفيض ومشاورات حثيثة وذلك بخلاف المقترح الحاضر)؛ وكانت الأسباب الموجبة في حينه تضمنت بما تضمنته وعلى سبيل البيان ليس إلا: ظروف الحرب وتداعياتها وذيولها؛ كما وتعليق مهل مرور الزمن على أعمال التحقق الضريبي؛ وأخيراً مستويات التضخم ومعدلات الضريبة المرتفعة في حينه. ولا نخال أحداً يجهل أو يشكك بعدم توفرّ هذه الظروف راهناً.
لا بل أكثر من ذلك، فلقد ربط المشترع يومها وإشترط إجراء التسوية بانطلاقة جديدة من التعامل الواضح والدقيق مع الادارة الضريبية ومن قبلها لتوسيع قاعدة المكلفين وحث هؤلاء للعودة الى كنف الدولة؛ وقد تم التشديد والتأكيد والتدوين على أن هذه التسوية هي الأخيرة المعتمدة وبصورة استثنائية وأن ليس هناك من إمكانية لإجراء تسويات مستقبلية (كما ورد حرفياً). وبما أن الاستثناء ما برح أن أصبح نمطاً تشريعياً عرفياً معهوداً فلا داعي إذاً بعد ذلك للاسترسال أو الاستفاضة في التفسير الإضافي أو التعليل.
يبقى للتاريخ أن هذه التسوية الجديدة التي لم تعد تبررها الظروف التي كانت قائمة في حينه، من شأنها أن تشجّع لا محال الذين لم يمتثلوا قط للقوانين والأنظمة، على حساب المكلفين الذين قاموا بواجباتهم، على تكرار تقاعسهم وإخلالهم ومخالفاتهم في دولة الصفح والتسوية والغفران المستمر لغير المستحقين والمتطاولين على الحق العام والمصلحة الوطنية.
كما ومن شأنها أيضاً أن تعطي هؤلاء في محصلة الأمر أفضلية على الذين قاموا بتأدية ما عليهم من واجبات تجاه الخزينة؛ الأمر الذي سيضع الملتزمين في حالة يأس ويفقدهم الثقة بالمؤسسات ويثنيهم بدورهم عن تطبيق الأصول والموجبات لتسود والحال هذه شريعة الغاب في دولة قد تُضحي رسمياً وقريباً جداً فاشلة ومارقة في محافل الأمم.