عرّى القانون الانتخابي والتحالفات التي فرضها، كثيراً من الوجوه السياسية. قضى على المبادئ، وعزز مكانة المصلحة وحساباتها والخروج عن الثوابت. اعتاد اللبنانيون على ساستهم، بلحس مواقفهم وإغداق الوعود أيام الانتخابات. لكنهم لا يعتادوهم يوماً يخلعون قفازاتهم، وينقلبون على شعاراتهم وما كانوا يصفونه بالثوابت. يصحّ الكلام في الجميع، وهو أصبح متداولاً بشكل واسع بين الفئات الشعبية. لعلّ أكثر الأطراف التي طالها الانتقاد هما تيارا المستقبل والوطني الحر. لجأ المستقبل إلى التحالف مع خصومه في السياسة، فيما التيار الوطني الحر لجأ إلى التحالف مع من يختلف معه عقائدياً.
يوم وقّعت وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار، شكّلت خطوة التيار المسيحي الأكبر مفاجأة في الشارع. استغرب كثيرون ما أقدم عليه ميشال عون في حينها، لكنها بلا شك كانت خطوة جريئة أخرجت جمهوراً واسعاً من المسيحيين من القوقعة، كما كانت حال التحالف بين المستقبل والقوات اللبنانية. لكن في الانتخابات الحالية، كل هذه "الامجاد" تتهاوى. تتقدّم حسابات المصالح على أي حسابات أخرى.
في العام 2009، خاض التيار الوطني الحر معركته الانتخابية، ضد الحريرية السياسية والدين العام الذي أرسته. كان التيار، في حينها، متحالفاً مع الشيعية السياسية، والتقارب بينه وبين حزب الله في مواضيع عديدة، أبرزها مخاصمة السنّة، أدت إلى تجييش الشارع المسيحي لمصلحته، فحصد الكتلة النيابية الأكبر مسيحياً في مجلس النواب. وتعزز ذلك في تشكيل حكومات ما بعد الانتخابات، واستثمر تصعيداً ضد الحريرية السياسية، أو "داعش بكرافات" وفق ما كان يصف التيار الوطني الحر تيار المستقبل، إلى أن جاءت لحظة التسوية بين التيارين، والتي أفضت إلى وصول عون إلى القصر الجمهوري في بعبدا. حينها، سقطت كل شعارات التيار البرتقالي، وأصبح التحالف مع الحريرية السياسية، تحالفاً يحمي لبنان واقتصاده. سحب كتاب الإبراء المستحيل من التداول، وفيما ركّزت الانتقادات على الحريرية الاقتصادية، ها هي تتجدد اليوم وتتمدد. من باريس 1 و2، إلى سيدر 1، وطلب قروض بـ23 مليار دولار.
في التحالف ما بين المارونية السياسية والسنية السياسية، وجد التيار الوطني الحر نفسه على خصومة مع الشيعية السياسية في تفاصيل الإدارة السياسية، ولم يصل الأمر بعد إلى العناوين الاستراتيجية، التي يؤكد الطرفان أهمية الحفاظ عليها. حجم التناقض الذاتي لدى الأحزاب يتجلى هنا أيضاً، تخاصم السنية السياسية الشيعية السياسية استراتيجياً وفي السياسة الخارجية، وتتحالف معها بشكل غير مباشر داخلياً. فيما المارونية السياسية تتحالف مع الشيعية السياسية خارجياً، وتتواءم مع السنية السياسية داخلياً، مع بقائها موضع تجاذب بين القوتين الإسلاميتين، في شأن من يستقطبها أكثر. وقد ظهر ذلك في التحالفات الانتخابية، التي ارتبطت بأرقام وحسابات مصلحية فقط، فيتحالف التيار البرتقالي مع التيار الأزرق في دوائر معينة، ويتخاصم معه في دوائر أخرى مقابل تحالفه مع الثنائي الشيعي. والأنكى هو تحالف التيار الوطني الحر مع الجماعة الإسلامية، والذي تطور من تحالف موضعي في صيدا- جزين إلى أكثر من دائرة، كعكار والشوف- عاليه.
أسقط هذا التحالف شعارات كثيرة. بعدما كان التيار يدّعي مواجهة الإسلام السياسي للحفاظ على مواقع المسيحيين ودورهم الريادي، يلجأ إلى التحالف مع الجماعة الإسلامية. وفي ذلك تناقض كبير يعيشه التيار ويستدرج إليه بيئته. في أوساط الشارع المسيحي، ثمة كلام عن الكذب السياسي. هناك من ينتفض على خيارات التيار، بعد رفع شعارات الدفاع عن المسيحيين، وبناء المواقف السياسية على مهاجمة الإسلام السياسي، الذي تجسد في مرحلة بالحريرية السياسية بالنسبة إليه، ولاحقاً بالتطرف السنّي المتمثل بداعش والنصرة وحتى الجماعة الإسلامية.
خاض نائب التيار زياد أسود معارك عنيفة ضد خصومه في دائرة جزين، تحت شعار استعادة قرار المنطقة، لكن القانون الحالي، دفع تياره إلى الدخول في مفاوضات مع تيار المستقبل، وبعد فشلها تحول الاتصال إلى الجماعة الإسلامية، التي بدورها لم تقصّر في حق التيار، ولا في حق أسود. مشهد الأيادي المرفوعة بين أسود وبسّام حمود، وهما اللذان اشتبكا سابقاً على خلفيات سياسية وقضايا الموقوفين الإسلاميين، فيه كثير من الفظاظة، التي لا يبدو أنها ستمرّ بسهولة لدى المواطنين.
إبان ثورات الربيع العربي، التي أيدها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، انتفض جعجع ضد الشعارات التي رفعها التيار في حينها والتي ترتكز على تخويف المسيحيين بفزّاعة الإخوان. في تلك الفترة، شنّ التيار هجوماً شرساً على جعجع واتهامه بأنه يريد أن يحكم الأخوان المسلمون، لكن الرجل في حينها كان واضحاً، بأنه لا يريد مواجهة خيارات الشعوب، التي ستكتشف في ما بعد خطأ تجربة الأخوان المسلمين وستختار غيرهم، لكنه كان يريد لذلك أن يخرج من قناعة الناس. اليوم، يلجأ العونيون إلى التحالف مع الإخوان، وليس على قاعدة سياسية، بل على قاعدة مصلحية ومرحلية. وهذه تكون أسوأ لأنها غير مبنية على قناعة، بل على واقع حتّمته الظروف وفرضته المصلحة، بعيداً من أي مبدئية.
ينقلب التيار الوطني الحر على نفسه. يفتح معاركه الانتخابية في وجه الفساد والطبقة السياسية والاقطاع. يصوّب على حركة أمل، ويستهدف القوات اللبنانية، ينتقد الحريرية، ويخاصم الجماعة الإسلامية. يبني خطابه على هذا الأساس، ويجيّش شعبه خلفه وفق هذه المواقف، لكنه في النهاية، وعندما يحين وقت الاستحقاق، يتحالف مع هؤلاء، جمعاً في الحكومة، وفرادة في الدوائر الانتخابية، لكنه يعلن أنه معارضة وأنه ضد السلطة السياسية. هو القاموس الذي لا يزال مفتقداً في لبنان، للعبور بين قواعده لفهمه.