قدّم «حزب الله» رؤيةً اقتصادية متكاملة، وقد تكون الأولى من نوعها ببُعدٍ اقتصادي وإداري ومؤسساتي ومالي واجتماعي، وقد يكون من السهولة بمكان نسفُ كلّ برنامج الحزب من دون حتى قراءته من منطلق أنّ أولوية «حزب الله» المتعلّقة بالمقاومة لن تتبدّل، وقد لا يكون الحزب متورّطاً مباشرةً بالفساد، إنّما سيغضّ النظرَ بالتأكيد عن قوى حليفة له وربّما بعيدة عنه متورّطة بالفساد حتى أخمصِ قدميها، في حال أيّدت أو غضَّت النظر عن مقاومته وسلاحه.
وقد تكون نيّات «حزب الله» في مكافحة الفساد سليمة وجدّية، ولكنّ المشكلة ليست على مستوى النيّات، إنّما على مستوى قدرته على ترجمة نيّاته، فهو، وللأمانة، تقاطعَ مع «القوات اللبنانية» في أكثر من ملفّ لا تكتمل فيها المواصفات القانونية المطلوبة للموافقة عليها وتقطيعها، إلّا أنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيتمكّن «حزب الله» من أن يتحوّل إلى رأس حربة في مكافحة الفساد؟
بالتأكيد كلّا، والسبب البسيط والأساس أنّ مكافحة الفساد تستدعي غيابَ الغرَضية السياسية، وما ينطبق على «حزب الله» ينسحب على غيره، حيث لا يستطيع أيّ طرف سياسي له غرضية أو مصلحة معيّنة القيامَ بمسؤولياته على الوجه المطلوب، والمقصود بالغرَضية هو أنّ المعركة الأساسية للحزب ليست قيامَ دولة فعلية على طريقة «القوات اللبنانية»، إنّما الحفاظ على مقاومته، وبالتالي هو بحاجة لتقديم تنازلات لهذا الطرف ومسايرةِ طرفٍ آخر من أجل تغطية سلاحِه وتأييده، لأنه يَخشى في حال قرّر الذهابَ في المواجهة حتى النهاية أن يخسر تأييد تلك القوى لسلاحه.
ولا يجب الاستهانة بالقوى الفاسدة التي مِن تلقاء نفسِها تُقايض «حزب الله» وتفسِّر له على الناعم بأنّ موافقتها على دوره مشروطة بموافقته على دورها، فتأييدُ معظمِ القوى التي تتقاطع مع الحزب للسلاح ليس متأتّياً من اعتبارات عقائدية وأيديولوجية، إنّما من اعتبارات مصلحية، وبالتالي السؤال الأساس هو: هل «حزب الله» على استعداد لخسارة هذا الحليف أو ذاك المؤيّدِ لسلاحه مقابل تطبيق برنامجه الإصلاحي الجديد؟ والجواب قطعاً كلّا، لأنّ علّة وجوده، ويا للأسف، مرتبطة بسلاحه ودوره ومشروعه، وبالتالي ستبقى أولويته للسلاح وليس للدولة أو لبنان.
ولا يملك «حزب الله» أساساً ترَف استبعادِ هذا الطرف أو مخاصمة ذاك بسبب الفساد، باعتباره يخوض مواجهةً مع المجتمعين الدولي والعربي ومعظمِ الشعب اللبناني من أجل الحفاظ على هذا السلاح، وبالتالي يحتاج لحلفاء «من غيمة» كما يُقال في العامية، ولذلك يستحيل على طرفٍ أولويتُه سلاحه أن يتحوّل إلى رأس حربة في مشروع بناءِ الدولة.
والسؤال الآخر الذي يطرح نفسَه: هل يستطيع «حزب الله» المزاوجة بين سلاحه ومكافحة الفساد؟ سيحاول ذلك، وسيسعى إلى ذلك، ولكنّه سيفشل في اللحظة التي تصطدم فيها «أولوية» الإصلاح بأولوية السلاح، حيث إنّ الغلبة دائماً للسلاح الذي يعلو ولا يُعلى عليه، ولذلك سيقدِّم بعد الانتخابات مقاربةً مختلفة وممارسة مختلفة، ولكنّها ستبقى محكومة باعتباراته الاستراتيجية.
وما ينطبق على القوى السياسية التي يغضّ «حزب الله» النظر عن ممارساتها لانتزاع تأييدها لسلاحه ينسحب بشكل أو بآخر أيضاً على بيئته التي يتجنّب الاصطدامَ بها وتحديداً بالشريحة التي تضع نفسَها فوق القانون وبحقّها مئات مذكّرات التوقيف، وهي ليست قليلة بالمناسبة، وكلامُه عن إعطاء الدولة الضوءَ الأخضر لملاحقتها يبقى في إطار الكلام للكلام، وأمّا السبب الفعلي لتجنّبِه الصدامَ معها فهو حاجته لتأييدها لسلاحه، بل المقايضة نفسها التي يجريها أو تجريها معه القوى السياسية تنسحب على الجماعات الخارجة عن القانون داخل بيئته، فيغضّ النظر عن مخالفاتها للقانون وتجاوزاتها وارتكاباتها مقابل تأييدها الأعمى لسلاحه ومقاومته.
فلكلّ ما تقدَّم من أسباب لن ينجح «حزب الله» بتطبيق برنامجه الطموح ولا الالتزام بضمونه، ولكن أهمّ ما في هذا البرنامج اصطدام أولوية الحزب الأيديولوجية بأولوية الناس الحياتية، ولمسُه لمسَ اليدِ أنّ المقاومة لا تطعِم خبزاً، قد تطعم بعضَ الناس ولكن لا يمكنها إطعام كلّ الناس، وبالتالي وجَد الحزبُ أنه لم يعد باستطاعته الهروب من مقاربة ملفّات الناس من دون الانخراط في الدولة، ما يعني أنّ دويلتَه لا تُجسّد تطلّعات الناس، ولا دورته الاقتصادية قادرة على إرضاء كلّ الناس، فضلاً عن أنّ المساهمة في بناء الدولة تتناقض مع مشروع الدويلة، خصوصاً أنّ شريحة واسعة من بيئته تقف معه بسبب عدمِ ثقتِها بالدولة، ومجرّد أن تستعيد ثقتَها تتخلّى تلقائياً عن المشاريع البديلة.
فإذا كان انخراط «حزب الله» في الحياة السياسية هو نقطة التحوّلِ الأولى في مسيرته من ثورةٍ رفضية للنظام اللبناني بتكوينه ودوره، فإنّ برنامجه الانتخابي هو نقطة تحوّلِه الثانية التي فرضَتها الوقائع والحاجة، وهذا جزء من مسار لبنَنةٍ قد يصلُ بعد سنوات أو عقود وربّما لا يصل، ولكن الأكيد أنّ الحزب يشهد تحوّلاً بطيئاً لمزيد من الاندماج بالواقع اللبناني الذي أثبتَ أنّه أقوى من الحزب الذي ستبقى المواجهة السيادية معه مستمرّة إلى حين تسليمِ سلاحه للدولة، والتحدّي الأساس أمام الحزب الالتزام ببرنامجه الانتخابي من أجل تقاطعٍ أكيد تحت سقفِ الحكومة والبرلمان لمواجهة الفاسدين والمفسدين.