في البدء كان التواصل عسكرياً، وكان تبادل المعلومات يقتصر على ضباط الجيش ورجال الامن، قبل أن يصبح ، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، متاحاً للجمهور، عندما كانت تلوح في الافق "نهاية التاريخ"، وتظهر بوادر العولمة. كانت الانترنت شبكة عنكبوتية سرية، أحد أسلحة الاشارة العصرية، فتحول الى وسيلة للرصد والتحليل والفرز والتأثير على المدنيين.
لم يكن قرار إباحة هذه الشبكة لعامة الناس صدفة. ويقال انه أتخذ بعدما صار لدى العسكر الآن بديلاً سرياً آمناً لهذه الخدمة شبه المجانية. يضاف الى ذلك أنه كان هناك إحساس عميق بالثقة بالنفس، وبالنصر، وبالقوة، وبأنه لم يعد هناك في الشرق(على إختلاف هوياته) ما يستحق التعبئة أو التحدي، ولم يعد هناك في الغرب(على إختلاف تلاوينه) ما يستدعي الخوف أو القلق..من إيديولوجيات أو أفكار أو تجارب كبرى.
لكن ما الذي يفسر هذه الحرب الالكترونية الكونية التي تدور رحاها اليوم على الشبكة العنكبوتية، وتكاد تضع الجيوش وأجهزة الامن على حافة المواجهة العسكرية، وتعلن حالات الاستنفار على الحدود بين الدول، وتفرض العقوبات وحالات الحصار على شعوب كاملة.. وتبدو معها الصراعات الدموية الدائرة في العالمين العربي والاسلامي، وكأنها هوامش لتلك الحرب الكونية المشتعلة في عالم كان يوصف بالافتراضي، فإذا به اليوم، يبدو أكثر واقعية من أي عالم آخر.
فايسبوك ليس سوى مرآة لهذا العالم، صورة شاملة، بالغة الوضوح والدقة عن الحياة البشرية على هذا الكوكب. الموقع يقوم بما رسم له منذ اللحظة الاولى: ان يكشف الناس، يعريهم، يفضح أسرارهم، يبيح مشاعرهم ومواقفهم. إغراء التواصل مع مئات الآلاف بل الملايين من مجموع الذين أغوتهم الشبكة العنكبوتية، يوفر شعوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ بالانتماء، والإتصال، وطبعاً التأثير.
الفضيحة الحالية التي يواجهها الموقع، مع عميله موقع "كامبريدج أناليتكا"، والتي دفعت الملايين من مستخدميه الى النفور والفرار من صفحاته، ليست مسؤوليته. ثمة جمهور شاء عن سابق تصور وتصميم أن يكون علنياً ، أن يتباهي بما كان يدخل في باب المحرمات والمحظورات، بأن يتبادل الرسائل والمشاعر والمواقف من دون غلاف او لاصق او رمز، وبأن يعرض الصور الحميمة والخاصة جداً ، على من يشاء بغير حساب.. وبان يستدرج الردود ويقيسها ويفاخر بها بغير قياس.
الدرس الاول الذي يتعلمه أي مستخدم للانترنت هو : إحفظوا أسراركم واحتفظوا بها لانفسكم، فكل كلمة تكتب على الشبكة لا تمحى ، حتى ولو حذفت بعد دقائق، وتصبح عرضة للاستغلال والتشويه والابتزاز. كان فايسبوك نقيض هذا الدرس، ولا يزال، وسيبقى.. لان الضعف البشري أمام الشهرة، صار أشد من أي وقت مضى، وأيضاً لأن الحاجة الى التواصل الانساني أقوى من أي وقت مضى.
الاتهام الموجه الى فايسبوك بالتلاعب بالجمهور الاميركي ودفعه الى إنتخاب دونالد ترامب او بالجمهور البريطاني لحثه على الخروج من الاتحاد الاوروبي، لا يعبر سوى عن حقيقة أن هذين الجمهورين، بالغا في البوح بأسرارهما، وأبديا إستعداداً مسبقاً للتفاعل مع حملة إعلانية واضحة المعالم والاغراض. لم تكن هناك مؤامرة. كان هناك موقع ، مواقع ، شركات، إستخدمت ما لديها من معلومات وصور ومشاعر ومواقف علنية، من أجل خدمة مصالحها. أما تحويل روسيا الى مصدر رئيسي للشرّ على الشبكة، فتلك مزحة، لا تصمد أمام حقيقة أن جميع مواقع الاحزاب والشخصيات والشركات الاميركية، مفتوحة لمن يشاء التغلغل والتسرب الى عقول الاميركيين، وبأرخص الاسعار، التي تستطيع دول مثل بنغلادش او توغو ان توفرها.
لم يكن صعباً في أي يوم إستغلال الشبكة لهذا الغرض، ولا الافادة من فايسبوك في هذه المهمة. الجديد الآن هو أن الامر حصل للمرة الاولى في المجال السياسي الداخلي، بعدما كان الامر يقتصر في الماضي على وسائل الاعلام التقليدية، الصحف والاذاعات والتلفزيونات.صار هناك زعماء وقادة ورؤساء يحكمون دولهم ويديرون مؤسساتها بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي.. ويصنعون التاريخ بما يقرب من التفاهة والأميّة والشعبوية.
لعلها ضريبة التطور الإنساني والتقدم التقني. لكن خطورتها أنها بلا أي قيمة مضافة، سوى الإدعاء بان عالم الغد، هو عالم بلا أسرار، بلا حدود، بلا ضوابط.. عولمة الكترونية لا إنسانية ولا أخلاقية.