نقاشان بينهما مسافات فلكية، يدوران بالتوازي على الساحة اللبنانية قبل أسابيع من الانتخابات النيابية. يتناول النقاش الأول البرامج وأساليب مكافحة الفساد المستشري وإنقاذ لبنان من الهاوية الاقتصادية والمالية التي يقف على حافتها. ويهتم الثاني بتحقيق أعلى النتائج يوم الاقتراع الذي سيُجرى وفق قانون جديد ينطوي على مفاجآت عدة بسبب سوء قراءة من أعده للواقع المحلي.
الفارق بين النقاشين هو ذاته الفارق بين الوهم والحقيقة. الوضع الكارثي الاقتصادي والاجتماعي في لبنان ليس وهماً بطبيعة الحال. الوهم هو الاعتقاد بقدرة المجموعة السياسية الحاكمة على التعالي على صغائرها وسفاسفها والانتباه الى أن البلد بات قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس العام وأن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار من دون جرعة عالية من الإصلاحات غير المُفكّر فيها حالياً، ما قد يفتح أبواب اضطرابات تتخذ المنحى اللبناني في التعبير، أي أنها ستتحول الى أعمال عنف طائفية وعنصرية ضد اللاجئين، الهدف الأسهل في إلقاء عبء مسؤولية الكوارث المقبلة عليه.
التشديد في البرامج الانتخابية على الشأن الاقتصادي وعلى التصدي للفساد، مجرد ألفاظ لا مكان لها في الحقائق الموضوعية. ما من كتلة نيابية بقادرة على تحريك ساكن في جملة البنية الاقتصادية المهيمنة على لبنان منذ عقود. بل إن بعض أفصح المدافعين عن الصيغة المحلية من الليبرالية الاقتصادية، التي نشهد قرب ارتطامها بحائط فقدان الدور الاقتصادي الإقليمي وخسارة الموارد المحلية، قد رشّح نفسه الى الانتخابات التشريعية.
اللبنانيون عموماً ليسوا سذّجاً بما يكفي لتصديق أن من يمارس الفساد والرشوة والاعتداء على الأملاك العامة مثلما يتنفس، سيستيقظ غداة الانتخابات إنساناً جديداً مؤمناً بالنزاهة والشفافية وحكم القانون. لذلك، يبدو النقاش الثاني، الموازي، هو الذي يستحق الاهتمام الجدي.
محور النقاش هذا مسألتان: الأولى، تجميع العدد الأكبر من المقاعد النيابية لمصلحة الائتلاف الحاكم منذ نهاية 2016، (الثنائية الشيعية و «التيار الوطني الحر» و «تيار المستقبل»)، من أجل تكريس التسوية التي أوصلت الائتلاف المذكور الى السلطة ومحورها كيفية استغلال الثروة النفطية التي يُظن أنها قابعة في عمق البحر، مقابل ترك المسائل الأمنية والاستراتيجية في عهدة «الحزب». الثانية، تعزيز أجواء الانقسام الطائفي وما يصاحبه من خوف متبادل لتبرير الوضع الحالي والقول باستحالة الخروج منه أو تغييره الى وضع يحمل بعض العدالة والأمل للأجيال الشابة.
وبفوارق زمنية تتقلص مع الاقتراب من موعد التوجه الى صناديق الاقتراع في السادس من أيار (مايو) المقبل، تزداد صراحة الخطاب الطائفي الذي يُظهر السياسيون اللبنانيون بواسطته ألوانهم الحقيقية: الكراهية والعنصرية وقدر لا يحسدون عليه من الخِسّة والوضاعة. المؤسف أن الخطاب هذا والسياسيين هؤلاء سيحصلون على أكثرية الأصوات الانتخابية.
حدة الأزمة الاقتصادية قد تقلب الطاولة بحيث يحتل النقاش الأول كل الساحة العامة، على ما يُفهم من تخصيص الأمين العام جزءاً كبيراً من خطابه الأخير للحديث عن أهمية مكافحة الفساد. بيد أن في أيدي سحرة السياسة اللبناني ما يكفي من أوراق، لإبقاء اللعبة داخل الملعب الطائفي المريح لهم حتى وإن أدى ذلك الى وصول مئات آلاف اللبنانيين الى حافة الجوع.