الأصحاء الذين أصيبوا غصبا عنهم بطريقة تسببت بإعاقتهم، تصح تسميتهم بـ"المعوقين القسريين"، هؤلاء كثر، أغلبهم ضحايا الأحداث، من قصف وقنص ورصاص طائش، وبعض منهم لأسباب أخرى كحوادث السير.
في موسم الانتخابات، يغيب هؤلاء عن شعارات المرشحين، وبرامجهم الانتخابية، إن وجدت. فالمرشحون اعتمدوا شعارات النخوة، والقبضايات والمباهاة: "أنتم مع الحق، ونحن الحق"، و"مستقبلك عندنا"، و"الساكت عن الحق شيطان أخرس"، أمثلة من الشعارات على سبيل المثال، تغيب عنها هموم الناس، ومعاناتهم، ومشاكلهم، وتطلعات الأجيال الجديدة، وكأن المرشحين يعطون الدولة الحق في عدم رعاية مواطنيها، وإهمالها لهم، وتركهم فريسة العذاب، والقهر الطارىء على حياتهم دون أن يكون لهم يد بذلك.
من هؤلاء إبرهيم محمد، المعروف بـ"أبو غدير"، ومحل إقامته جبل محسن في طرابلس. شاب في مقتبل العمر، تبدو بنيته قوية، وهو ملقى طريح كرسيه، يتابع برامج الشاشة في صالون بيته في الطبقة السادسة من مبنى عالٍ مطل على أحياء باب التبانة.
يوم بني المبنى أوائل سبعينيات القرن الماضي، أعطي فرصة الإطلالة الجميلة على بساتين الليمون في سقي طرابلس الغربي، وامتدادا حتى البحر، فتركت له نوافذ وفتحات واسعة تمنح ساكنيه فرصة التمتع بإطلالة جميلة لامتناهية.
لم يكن في بال البنّاء في ذلك الحين أن هذه الفتحات قد تكون قاتلة لصاحبها ذات يوم، ولم يكن يعرف ان حربا ضروسا ستجتاح لسنين طويلة، وقد تكون هذه الفتحات مصدرا للقلق لا للراحة.
يروي محمد قصته مع شلله الذي أقعده في البيت منذ عام ٢٠١٤: "كانت النار تستعر، وبين الحين والآخر، يعلن اتفاق لوقف النار. حاولت أن استغل فرصة وقف إطلاق نار لأسد المنافذ الواسعة في الجهة الغربية لبيتي، المطلة على باب التبانة، فقد عبرت من خلالها العديد من الطلقات الطائشة، والرمايات، ورصاصات القنص، وأولادي الخمسة يسرحون ويمرحون في المنزل، ولطالما أنقذوا من طلقات أخطأتهم لحسن حظنا"، يقول محمد القابع على كرسيه، يتحرك من صدره إلى أعلى رأسه، أما ما تبقى من جسده، فهو معطل عن العمل، ومشلول، مع ما يعنيه ذلك من إرباكات المرض، وخلل الوظائف الجسدية.
ويتابع قصته: "حاولت سد الفتحات بتركيب ألواح حديد تحمي البيت من المخاطر. كنت مطمئنا الى أن هناك وقفا للنار. شعرت للحظة بحرقة في رقبتي، وما لبث أن تدفق الدم. أدركت أنها رصاصة قنص. أحد القناصة استغل فرصة الهدوء. دخلت رصاصة في الرقبة من الأمام، ونفذت من الخلف، قاطعة بذلك النخاع الشوكي في مسافة تبعد زهاء خمسة عشر سنتيمترا عن الرأس. سقطت ارضا، وشعرت بشلل قدمي، ولم أعد أقوى على الحركة".
منذ ذلك الحين، اقعدت الإصابة محمد، فتوقف عمله، وذاقت عائلته كأس الفقر. ويقول إنه كان يعمل في تصنيع أصناف من حلوى "الحلاوة" و"المشلشة" وما شابه، في مصنع لها. كنت أقبض ألف دولار في الشهر، تسد حاجتنا دون منة أحد. لكن الحادثة هددت العائلة في مصيرها، وبتنا جميعا نعيش القلق".
يعاني محمد اليوم عدم القدرة على الحركة، والحاجة الى معيل دائم معه لسد حاجاته، تتولاه زوجته، وقد اضطر ابنه الأكبر الى التوقف عن الدراسة بحثا عن عمل، وهو يسد بعض رمق العائلة عندما يعمل بأي خدمة، فهو "ليس متخصصا بأي حرفة تمكنه من العمل الدائم"، كما يقول والده، مضيفا: "إن أكثر ما يشغل بالي هو ابني الكبير، الذي وقع هم العائلة عليه، في بلد يغيب اهتمام الدولة بمن هم مثلنا".
من مطالب محمد أن "تعوض الدولة بعضا من خسائرنا، لتمكننا بذلك من بناء غرفتين لإقامة ابني وتأمين مستقبله". والمطلب الأهم بالنسبة اليه هو تأمين فراش يعمل على الكهرباء، "فأريح العائلة، وأقوم ببعض حاجاتي دون إرباك أحد".
ونظرا الى تعقيد مشكلته، فهو يصاب بأمراض متعددة بين حين وآخر، ولا يشعر بالمرض بسبب الشلل، فينعكس ذلك عليه وجعا في الرأس، فيدرك أن أمرا سيئا أصابه. "عند شعوري بوجع في الرأس، نستدعي اشقائي وأصدقائي، فينقلونني محملا إلى المستشفى في مهمة صعبة، حيث عليهم أن يحملوني نزولا وصعودا لسة طبقات".
وفي المستشفى، يقول محمد، "أتكلف مبالغ طائلة تفوق الستمئة ألف ليرة لبنانية عند حصول المرض، وهو متكرر بطريقة شبه شهرية. وهذا المبلغ انتظر الأجاويد للمساعدة فيه. فالدولة لا تعوضك خسارتك، ولا تغطي نفقات علاجاتك".
يقعد محمد على كرسي بدواليب تتيح له التنقل في المنزل بين الصالون وغرفة النوم حيث سريره، وفراشه، وفي الصيف، يخرج إلى الشرفة لبعض الترفيه. هذا هو عالمه، يعيش حياته في ظروف مأسوية، بعدما فقد صحته، ففقد معها قدرته على العمل، وراتبا كان يكفي لتغطية حاجات عائلته.
وينتظر ابنه للحصول على بعض مال من عمله، وعلى ما يجود به الأصحاب الخيرون، ويقول:"يا لسوء حظ ابني. وقع عليه عبء العائلة، ولو كنا في بلد غير لبنان، لأوجدوا له عملا، وأمنوا لي تعويضا يقيني العوز".
أولاد محمد الآخرون في المدرسة، وله ابن في البكالوريا، يتابعها بصعوبة. ويقول: "سأبذل جهدي للنجاح لتعويض خسارة أبي. لكن ظروفنا ضاغطة، ووضع والدي يؤثر علي كثيرا، لكنه يحفزني على النجاح".
أما زينب، ابنة محمد الصغرى، في الثامنة من عمرها، التي لا تعرف من الدنيا ماذا يمكن أن يعنيه الشلل الدائم، فتقول: "أتمنى الشفاء لبابا، والعودة الى العمل، لكي يشتري لي أرنبا ألعب به".