لا يختلف اثنان أنّ في الولايات المتحدة الأميركية شخصية استثنائية بتوجّه راديكالي يصعب معها تقدير ردود فعلها وانفعالاتها، بل كل الاحتمالات معها مفتوحة باستثناء احتمال واحد وهو أنّ ولايتَها الرئاسية لا يمكن أن تمرّ من دون بصمات عدة، وواحدة من تلك البصمات ستكون في الشرق الأوسط مع التوجّه الحاسم للرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتّفاق النووي مع إيران وكبح دورها في المنطقة والذهاب إلى سلام فلسطيني-إسرائيلي واستطراداً عربي-إسرائيلي.
ولا يختلف اثنان أيضاً أنّ في المملكة العربية السعودية شخصيّة إستثنائية بدورها وحضورها ورؤيتها وتوجّهها الحاسم والإصلاحي والواعد، وعلى رغم أنّ الحكم في السعودية استمرارية، إلّا أنّ الأمور مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تختلف عما قبله في ظلّ إدارة أكثر حزماً وحسماً وتضع في سلّم أولويّاتها ثلاثة أهداف أساسية: إصلاحات داخلية تنقل السعودية من مكان إلى آخر؛ التصدّي لدور إيران الإقليمي وميليشياتها على امتداد العالم العربي؛ إعادة الاعتبار للدور الإقليمي العربي بعدما تمّ تغييبُه وتناتشُه.
وإذا كان التقاطع الأول وليدَ الصدفة التاريخية بالتبَوُّء المتزامن لكلٍّ مِن ترامب وبن سلمان مواقعَ قيادية وتقريرية في واشنطن والرياض، فإنّ تقاطعهما على الهدف نفسه بتحجيم الدور والنفوذ الإيرانيَّين، يعني أنّ المنطقة دخلت في حقبة جديدة أو عصر جديد، ويخطئ كلّ مَن يقلّل من هذا التقاطع ومفاعيله الإيجابية على مستوى المنطقة.
وفي هذا السياق بالذات تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، وتحصل في منعطف تاريخي مهم تبحث فيه الإدارة الأميركية عن اختراق نوعي في الشرق الأوسط، وفي ظلّ جهوزية سعودية كاملة لمواكبة الفعل الأميركي، فلا الإدارة الأميركية تملك ترف الانتظار، لأنّ السنة الثانية من الولاية الرئاسية هي الأفضل لتحقيق الاختراقات والإنجازات، ولا الإدارة السعودية بطبيعة الحال والتي تريد الاستفادة من الوضع الجديد لإعادة تصحيح الخلل الذي أحدثته الإدارة الأميركية السابقة.
فالإدارة الأوبامية انحازت بشكل مخيف لمصلحة طهران وعلى حساب الرياض والعواصم العربية، وكل ممارستها أدّت إلى تعزيز الدور الإيراني، فغضّت النظر عن هذا الدور الذي يشكّل أحد أبرز عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، كما يشكّل تهديداً وجودياً للدول الخليجية، ويحول دون السلام في المنطقة، وبدلاً من أن يكون الاتّفاق النووي محطة حاسمة لوضع حدٍّ لبرنامج إيران النووي ودورها، تمّ الاكتفاء بضبط برنامجها النووي مع غضّ نظرٍ دولي مستمرّ عن دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة، والأسوأ أنّ الاتّفاق النووي أدّى إلى ترييح طهران اقتصادياً، الأمر الذي مكّنها من مضاعفة تدخّلاتها في المنطقة.
والمقاربة الأميركية السابقة لكل ملفات المنطقة وتحديداً في سوريا والعراق أدّت إلى خدمة المصلحة الإيرانية، ولولا وصول الإدارة الترامبية لكانت الأمورُ ازدادت تعقيداً وسوءاً، فيما العدّ العكسي للدور الإيراني الذي توسّع إلى حدٍّ كبير مع سقوط نظام الرئيس صدام حسين في العام 2003 قد بدأ فعلياً مع انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
فالإدارة الترامبية تعتبر الاتّفاقَ النووي مع طهران بمثابة الخطأ التاريخي، وهي مصمِّمة على الخروج من هذا الاتّفاق أو تعديله بالشكل الذي تنتظم فيه طهران تحت سقف الشرعية الدولية، ويُصار إلى حسم الازدواجية أو التناقض الرهيب بين أن تلتزم إيران بسقف الشرعية الدولية نووياً، وبين أن تواصلَ خروجَها عن هذا السقف من خلال دورها الإقليمي، فيما لا تستطيع طهران أن تلتزم في مكان وألّا تلتزم في مكان آخر، فإما هذا الالتزام يكون تاماً أو لا يكون، ولذلك على إيران أن تحسمَ أمرَها بين أن تكون دولة طبيعية أو ثورة.
والهدف الأساس من وراء السعي الإيراني للقنبلة النووية ليس استخدامها بطبيعة الحال، إنما هو مزيد من توسيع دورها الإقليمي وتحصينه، وبالتالي لا يجوز أن تحصل على هذا الدور كمقايضة ضمنية عن تخلّيها عن القنبلة النووية او كهدية مجانية، علماً أنها تخلّت مرغمةً ولم تكن مخيّرة، فيما المشكلة الأساس كانت وما زالت في دورها.
فالأولويّة الموضوعة على طاولة المفاوضات بين ترامب وبن سلمان هي الدور الإيراني عموماً والميليشيات الإيرانية خصوصاً، وهذه الأولويّة لن تكون مجالاً للمساومة والمناورة، إنما الأكيد أنّ القمّة الأميركية-السعودية ستضع خريطة المواجهة الفعلية، كما ستضع واشنطن الرياض في أجواء خطواتها العملية.
والأكيد في كل هذا المشهد أنّ المنطقة مقبلة على تطوّرات كبرى في الأشهر القليلة المقبلة، وأنّ الستاتيكو القائم سينهار لمصلحة ستاتيكو جديد، وأنّ المصلحة اللبنانية تكمن في هذه المرحلة تحديداً في الالتزام التام والكامل بسياسة النأي بالنفس ومنع طهران من استخدام لبنان بواسطة «حزب الله» للرد على الخطوات الأميركية القريبة المقبلة.
وما تجدر ملاحظته أنّ زيارة بن سلمان إلى الولايات المتحدة تتجاوز الطابع البروتوكولي الرسمي إلى زيارة تزاوج بين الصداقة والشراكة، وقد تكون المرة الأولى التي تصل فيها العلاقة بين الرياض وواشنطن إلى هذا المستوى من التنسيق والتكامل، والفضل في ذلك يعود إلى شخصية كل مِن ترامب وبن سلمان وتوجّهاتهما.