"لقد خلقهما ذكراً وأنثى". هكذا تقول الكتب السماويّة، وهكذا تستقيم أمور البشريّة منذ البدايات تكاثراً واستيطاناً وإعماراً للأرض بكلِّ قارّاتها، وذلك بتضافر جهود البشر أُخوةً بالرُّغم من تعدّد الألوان والأجناس والأديان والأعراق، وبخاصّةٍ تعاضُد المرأة مع الرجل في العائلة وفي المجتمع.
فالمرأة، كما الرجل، مدعوّة الى أداء الدور المنوط بها لأنها نصف المجتمع. وهي ليست بأقلَّ منه قدرةً وكفاءةً وانتاجاً. وها إنها، بعد مئتي سنة على دخولها المدارس والجامعات، تنافسُ الرجلَ في كل الميادين، وتتخطّاه في بعض الأحيان. من هنا الحاجة إلى قانون يساويها بالرجل في ميادين العمل راتباً وحضوراً وقياماً بكلِّ الواجبات أسوةً بدول العالم الأوّل، الدول التي تُوْلي المرأة اهتماماً واعتباراً كبيرين.
قلنا إنّ للمرأة من كفاءة وقدرة ما يجعلها تتخطّى الرجُلَ في أحيان كثيرة. ولنا من التاريخ أكثر من شهادة ودليل على ما نقول، فمَن لم يسمع بزنوبيا ملكة تدمر، وكليوباترا فرعونة مصر، وأليسار مؤسّسة قرطاجة؟! ويكفي أن نشير إلى أنّ جدّنا آدم ما كان ليطيق سُكْنى الجنّة لو لم يُلقِ الله عليه سُباتاً ويأخذ من أضلُعه ضلعاً يخلق له منها امرأة.
ولَشَدَّ ما يُدهشني من المرأة هو أن تطالب بالمساواة مع الرجل، في حين أنّ الشرائع السماوية كلّها لم تجعلهما متساويين، فــ "الرجال قوّامون على النساء"، و"حظّ الذَكَر مثل حظّ الأنثيين"، و"الرجُل هو رأس المرأة"، ولها قال الربّ: "إلى رجُلِكِ يكون اشتياقكِ وهو يسود عليكِ" (تكوين: 3/16).
هذا في الكتب المقدّسة. أما في علم الاجتماع والإدارة، فإنّ العائلة مؤسّسة صغيرة. وعلى رأس كلّ مؤسّسة يجب أن يكون مدير واحد فقط. ثمّة مثَل تركيّ يقول: قبطانان على متن سفينة واحدة، إذاً السفينة لا يقودها أحد. لتكنِ المساواة إذاً في ظروف العمل والراتب، فالمرأة اليوم مدعوّة الى تغيير وجه العالم لأنَّ دورَها استثنائي في الإدارة، والعلوم، والسِّياسة، والفلسفة، والعمران، وأنسنة الإنسان الجديد بالرُّغم من كلِّ الاكتشافات الّتي جعلته آلةً واعية بين عالم من الآلات.
جُلّ ما على المرأة أن تطالب به، ونحن الرجال نطالب به لها معها، هو احترامها، وتقديرها، وإجلالها لأنها تستحقّ كلّ إجلال وتقدير واحترام.
البشرية كرّمت المرأة بأن أقامت لها يوماً عالميّاً. أما دولتنا فأقامت عليها وصيّاً سمّته وزير شؤون المرأة. بربّكم قولوا لي. أليس هذا اعترافاً بقصور المرأة في إدارة شؤونها بنفسها؟! أوَليس هذا حطّاً من قَدْرها، وإساءة لها في قناع الاحترام والإكرام؟!
وتبقى المرأة الحبيبة والجدّة والعمّة والخالة والشقيقة ... والأمّ المتفانية التي لم أعرف قيمتها إلّا عندما رُزقتُ ولدا ورأيت زوجتي، الأمّ الحنون أيضاً، تسهر الليالي بقربه. إذ ذاك أيقنتُ أنَّ كلّ ما أقدّمه لأمّي لا يساوي ليلة واحدة سهرتْ فيها لأجلي.
لهذه الأمّ التي قيل إنّ الجنّة تحت قدمَيها، أطالب بأن يكون الحادي والعشرون من آذار يوم عطلة رسمية. لا. لا تخافوا. يومذاك لن نطالب، نحن الرجال، بمساواتنا بها وتكريس يوم عطلة في عيد الأب. إذ كيف للنقطة أن تتساوى ببحر من الحنان! وأنّى للدقيقة أن تتشبّه بساعات السهر الطويلة قرب السرير!
وعن الأمّ ماذا باستطاعتي بعدُ أن أضيف على عبارة جبران: "وجه أمّي وجه أمّتي"! أجل. مَن أراد أن يعرف كيف هي الأمّة، فلينظرْ إلى وجه الأمّ فيها. فأيّ حال لأمّة إذا كانت الأمّهات فيها مجرّد آلات من لحم ودم، وظيفتها الإنجاب من أجل التكاثر! قال نابوليون: "الأمّ تهزّ سرير طفلها بيمينها، وتهزّ العالَم بيسارها". أجل، هي تهزّ العالم ليستيقظ ويرتقي ذُرى التقدّم إذا كانت واعية متعلّمة، أو تهزّه فيسقط في معارج التخلّف إذا كانت جاهلة. ولقد صدق حافظ ابرهيم حين قال:
الأمُّ مدرسةٌ، إذا أعدَدْتَها أعددتَ شعباً طيّب الأعراقِ
من منّا لا يعرف تضحيات الأمُ! سهر الليالي، ومشاقّ التربية، وفيض العطف والحنان!
هي الأمّ التي تُمسك بيد ابنها ليخطّ أولى كلماته.
هي الأمّ التي تُمسك بيد ابنها ليخطو أولى خطواته.
هي الأمّ الّتي نستمدّ منها أسمى مباديء حياتنا.
هي الأمّ التي لا يشيخ حبُّها.
هي الأمُّ الطّيبة، وطيبتُها أعمقُ من المحيطات.
هي الأمّ التي تصنَع الرجال.
لا أخفي أنني ذات مرّة تسلّلتُ إلى حنجرة الكنار واختلستُ تغريدة، وإلى قلب وردة نيسان وسرقتُ من عطرها نفحة. فعلتُ هذا لأقول للأمّ في عيدها كلمة مخضّبة بالطيب، مجبولة بشجيّ النغم. لكنني ما وجدتُ أرقّ وأصدق وأزكى من أبيات ثلاثة وصفَ فيها شفيق المعلوف أمّاً في الميناء أضناها سفَر ابنها على متن السفينة، قال:
تُرى هل عادَ من سفرٍ شِراعٌ ولم تُشبِعْهُ تقبيــــــــــــلاً ونَشْقا!
وهل أشفى على التَرحالِ إلا رأيتَ فماً على الكَتّانِ مُلقى
إلى أُذُنِ الشراع يبثُّ شيئـــــــــاً ويعهَدُ للريـــــــــــــــــاحِ بما تبقّى!
ذهبتُ إلى الميناء لأعرف ما كانت تبثّ تلك الأمّ في أُذُن الشراع المتأهّب للسفر، وما تعهد للرياح التي بدأت تصفر مؤذِنةً بالهبوب. وعندما أصغيتُ وأنصتُّ، سمعتُها تقول: أيهذا الشراع، أعِدُكَ بأن أغسل مِلح البحر عنك بدموعي عندما تعود إلى هذا الشاطئ بولدي. وأنتِ أيتها الرياح، أحلِّفُكِ ألا تجنّي وتغضبي، فأنا مُرسلةٌ معكِ فلذة من كبدي.
أجل. لقد تغيّر الزمن. وأصبح السفر بالطائرة أكثر منه بالسفينة. لكنّ قلب الأمّ لم يتغيّر. فكلّما ارتفعتْ في رحاب الفضاء ذاتُ جناحَين فضيَّين، لا بُدّ أنّ أمّاً رفعتْ بصرها ويديها إلى العلاء تدعو لها بالسلامة، لأنها ذات يوم ستحمل ابنَها المسافر إلى أرض الوطن.
يا أمّي. ماذا أقول لكِ بعدُ في عيدكِ! أأقول إنكِ طمأنينتي في ليل سُهْدي وقلقي! أم بلسمي في لحظات شِدّتي وألمي! أم منارتي الهادية في ظُلُمات ضَياعي! لا. هكذا كلّهم يقولون. كم أحبّ أن أقول لكِ شيئاً مختلفاً! لكنني لا أعرف إلا أن أمدّ يدي نحوكِ، وأنادي يا أمّي. وباليد الثانية أمسح الدمعة من عيني.