يحمل انفلات ميليشيات الحشد الشعبي التي شاركت في الحرب على تنظيم داعش وتُواصل إلى حدّ الآن حضورها في المناطق التي شاركت في استعادتها من التنظيم، مؤشرات بالغة السلبية على فشل سياسة احتوائها وإخضاعها لسلطة الحكومة كجزء من القوات المسلّحة العراقية، وهي السياسة التي سلكها رئيس الوزراء في إطار محاولاته استعادة هيبة الدولة وحصر السلاح بيدها.
وجاء اتهام مصدر أمني عراقي لقوات الحشد بالاستيلاء على منازل سكان نازحين من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بشمال البلاد واتخاذها مقرات لها ليكرّس اليأس من تطويق تلك القوّة الكبيرة ذات الخلفيات الطائفية والولاءات المشتتة بين زعامات دينية وسياسية، والتي ازدادت تغوّلا بفعل مشاركتها في الحرب على داعش، وما اكتسبته من خبرات قتالية وقدرات مالية وتسليحية، فضلا عن هالة التقدير التي أصبحت تحظى بها داخل شرائح مجتمعية معينة.
خطاب رئيس الوزراء العراقي بشأن احتواء الميليشيات وإخضاعها لسلطة الدولة لا يلمس منه أي أثر على أرض الواقع، فالحشد الشعبي ماض في تغوّله، وقادته ماضون في ترجمة قوّته العسكرية إلى قوّة سياسية من خلال الانتخابات القادمة
وقال ضابط برتبة رائد في شرطة نينوى إن “قوات مدججة بالسلاح تابعة للحشد الشعبي وصلت إلى أحياء الجوسق، والغزلاني، والطيران، والدندان جنوبي الموصل، وكسرت أقفال أبواب منازل النازحين واتخذتها مقرات عسكرية”.
ولسيطرة قوات الحشد المكوّنة في غالبيتها العظمى من مقاتلين شيعة، على المناطق السُنية في العراق وقع خاص، نظرا لما تحمله من مخاطر تكريس الصراع الطائفي الذي كان أصلا وراء ظهور تنظيمي القاعدة وداعش وتوفير حواضن لهما في صفوف المتضرّرين والناقمين على سياسات التهميش والتمييز على أساس طائفي.
كما أنّ إحكام الميليشيات لسيطرتها على مناطق بشمال العراق وغربه قبيل الانتخابات العامّة المقرّرة لشهر مايو القادم يتيح لها فرصة التحكّم باتجاهات الناخبين والتأثير بالتالي في النتائج.
ومنذ تأسيسه عام 2014 أكدت الوقائع أن الحشد الشعبي قوة تقع خارج السيطرة، حيث تم تجميع الميليشيات الشيعية في إطار واحد كي تكون في منأى عن المساءلة القانونية بالمعنى الذي يضفي على وجودها الكثير من الاستقلالية التي تمنع أية جهة رسمية من احتوائها. وسبق لمجلس النواب العراقي أن أقرّ قانونا خاصا بذلك التجمّع الذي جرى تلفيقه طائفيا من أجل أن لا يخضع سلاحه لسيطرة الدولة.
وقال ضابط متقاعد في الجيش العراقي إنّ “زعامات الحشد تعلن عن ولائها للولي الفقيه وتسليمها المطلق بولايته، وكل الامتيازات التي منحت للحشد مؤخرا من قبل حكومة حيدر العبادي كانت تنفيذا لأوامر من قاسم سليماني زعيم فيلق القدس الذي هو القائد الفعلي للحشد، كونه جزءا من الحرس الثوري الإيراني. ولم يكن القانون الذي أصدره العبادي محاولة منه لاسترضاء زعامات الحشد تمهيدا لترشحه لولاية ثانية كما قيل يومها. فالعبادي يعرف حجمه لدى إيران جيدا وهو حجم صغير مقارنة بالمكانة التي يحتلها قادة الحشد”.
ويضيف الضابط الذي سبق أن شارك في حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران “الحشد هو القوة الطائفية التي تراهن عليها إيران للحفاظ على وجودها في العراق. بل إن إيران حين كلفت خبراءها العسكريين والأمنيين بالإشراف على تنظيم ودمج الميليشيات الشيعية بعضها بالبعض الآخر وصولا إلى تأسيس الحشد الشعبي كانت قد خططت لأن يكون ذلك الكيان الطائفي بديلا عن الجيش العراقي الذي يذكرها وجوده بسنوات حربها مع العراق”.
واستولى الحشد الشعبي على العديد من البلدات التي تم طرد داعش منها ومنع سكانها من العودة إليها ومن بينها بلدة جرف الصخر جنوبي بغداد. وبدا أن حكومة العبادي عاجزة عن تلبية نداءات السكان بالتدخل وإعادتهم إلى منازلهم حرصا من الحكومة على تجنّب الصدام مع الحشد الذي تقوده شخصيات ذات نفوذ كبير.
ويرى متابعون للشأن العراقي أنّ ترشيح زعماء الحشد للانتخابات القادمة يعني تحول الحشد من قوة عسكرية لا تخضع لسيطرة الدولة إلى كيان سياسي يسعى إلى وضع بصماته على شكل الدولة العراقية وطريقة إدارتها.
ويذهب أكثر المتشائمين بمستقبل العراق حدّ الحديث “عن دولة الحشد”، التي يقولون إن إيران تدفع باتجاه تأسيسها كمرحلة متطورة عن “دولة الميليشيات القائمة فعلا”، في إشارة إلى استناد الكثير من السياسيين وقادة الأحزاب الشيعية المشاركين في السلطة وصناعة القرار السياسي إلى ميليشيات مسلّحة.
انتخابات مايو القادم فرصة لتأسيس دولة الحشد كشكل متطور عن دولة الميليشيات القائمة فعلا في العراق
ويشدّد رئيس الوزراء حيدر العبادي على أنّ الحشد هيئة رسمية تابعة للقوات المسلّحة وخاضعة لإمرة القائد العام لتلك القوات الذي هو رئيس الوزراء نفسه، لكنّ ذلك الأمر يبقى نظريا إلى أبعد حدّ وتنقضه الوقائع على الأرض.
وأصدر العبادي مؤخرا أمرا ديوانيا أعاد بموجبه “تكييف أوضاع مقاتلي الحشد الشعبي ومساواتهم مع الجيش العراقي من حيث الراتب والمخصصات”. وتظهر الكثير من الأحداث تسلّط الميليشيات على القوات النظامية نفسها ومعاملتها بعجرفة واستعلاء. وأقدمت ميليشيا سرايا السلام الأسبوع الماضي على قتل ضابط كبير ضمن فريق حماية رئيس الوزراء، برصاص أحد قنّاصيها في سامراء شمالي بغداد.
وقال الضابط بشرطة نينوى متحدّثا لوكالة الأناضول وطالبا عدم الكشف عن هويته إن “قوات الحشد رفضت الانصياع إلى أوامر قادة الأمن في المنطقة بعدم دخول منازل المدنيين، وهددت من يقف بوجهها بفتح النار عليه”.
وأشار إلى أن “القوات الأمنية المحلية لا تملك القدرات العسكرية التي تمتلكها قوات الحشد ما دفع بقياداتها إلى تجنب المواجهة”. ولفت إلى أن “قوات الحشد رفعت أعلامها الخاصة فوق المنازل التي استولت عليها وحولتها إلى ثكنات عسكرية ومقرات تابعة لها، كما عملت على إغلاق بعض الشوارع في تلك المناطق بالسواتر الترابية”.
في المقابل، أقرّ أنور الساعدي، وهو أحد قادة الحشد الشعبي في الموصل، بأن قوات الحشد اتخذت من تلك المنازل مقرات لها، لكنّه ادّعى أنّ الأمر تمّ بالاتفاق مع أصحابها.
وقال إنّ “خلية الاستخبارات التابعة للحشد وصلت إلى أصحاب تلك المنازل، واتفقت معهم عبر الهاتف من أجل إشغال دورهم لحين عودتهم إليها”. لكن صاحب أحد تلك المنازل نفى أخذ موافقته من قبل قوات الحشد قبل اقتحام منزله واتخاذه مقرا عسكريا. وقال الرجل الذي كنّى نفسه بأبي مريم تجنّبا للملاحقة إنه “تفاجأ بأنباء وردته من الأصدقاء والجيران في المنطقة بدخول قوات الحشد إلى المنزل وتحويله إلى مقرّ لها”.