23 تشرين الثاني 2017، 13 آذار 2018، ليست مجرّد مرحلة قاتمة في حياة الممثل المسرحي زياد عيتاني، إنّما مرحلة «ياريتها ما كانت» في حياة اللبنانيين، ونقطة سوداء في تاريخ الدولة اللبنانية، نظراً إلى الارتباك الذي شهدته واهتزازِ الثقة التي شعرَ المواطنون به. بالنسبة إلى زياد، لن تنتهي قضية اتهامه بالعمالة مع الاعتذار أو صدور القرار الظنّي، إذ يقول لـ«الجمهورية»: لا بدّ مِن إحقاق الحق ومعرفة الحقيقة.
إذا لم نصل إلى الحقيقة كاملةً ستكون القضية بمثابة «لحس دقون». القضية لم تعد قضية زياد عيتاني، وإذا كنتُ فعلاً أحبّ وطني، لا بدّ من المضيّ قدماً حتى النهاية، فما تعرّضتُ له كان يمكن أن يصيبَ أيّ مواطن لبنانيّ. وقد أثبتَت التحقيقات حتى اليوم أنه سبق وأصيبَ وتشظّى آخَرون بتهمة العمالة زوراً ودفعوا الثمن شبابَهم وسمعتَهم».
ويضيف: «أنا زَلمي بدّي حقّي»، قلتُها في زيارتي للرئيس سعد الحريري، وبما أنّ هناك فسحةً مِن الأمل في القضاء، فلنُكمل حتى النهاية في أخذِ حقّي عبر القانون بعد ما سيكشفه القرار الظني، وأخذُ حقّي لن يتعدّى مساحة الأشخاص الذين ارتكبوا ما ارتكبوه تجاهي». أمّا في نظر والدة زياد فالمسـألة محسومة: «ما حدا يقِلّي مبروك براءة زياد لأنّ ابني بريء منذ اللحظة الأولى».
في التفاصيل...
لم يكن الاستدلال إلى منزل زياد في طريق الجديده صعباً، إذ صورتُه المسدولة على شرفة المنزل بكلّ فخر واعتزاز تشير إلى أنّه يقطن في الطابق الخامس، وصَل فريق عمل «الجمهورية» عند البوّابة وصودِف مغادرة أحد محبّي زياد فبادرَنا بالقول: «طلَعو ع الدرج، لأن لا كهرباء ولا إشتراك موتير للأسانسور»، وتابَع سائلاً: «شايفين شِي عميل ما عندو إشتراك أسانسور؟ الله لا يوفّقن ع غلطتُن».
«تفضّلوا تفضّلوا» فتحَت لنا والدة زياد الباب وبؤبؤا عينيها متّسعَين من شدّة فرحِها، وهي تشير بيدِها اليمنى إلى أنّ ابنَها ينتظرنا في غرفة الجلوس. كان زياد يجلس على الأريكة وعن يمينه إحدى الدروع التكريمية لعطائه المسرحي، وإلى جانبه صورةٌ قديمة تجمَع الشهيد رفيق الحريري يصافح رجلاً يَكبره سنّاً وإلى جانبه الرئيس تمّام سلام، وقد أخبرَنا لاحقاً زياد أنّ جدّه هو مَن في الصورة، وهو الكبير الراحل الفنّان والكاتب محمد شامل خلال حفلِ تكريمٍ له، ثمّ غُصنا معه في الحديث.
«رَح ترجع ع بيتك»
منذ اليوم الأوّل بعد خروجه استيقَظ زياد عند الخامسة فجراً ليجلسَ على شرفة منزله يَحتسي القهوة ويتأمّل المارّة، «إشتقتُ للحياة، إشتقتُ لبيروت» يُخبرنا بلهفةٍ مبتسماً، معيداً في باله الساعات الأخيرة على مغادرته فرع المعلومات: «كنتُ في النظارة أغسل ملابسي بعدما استغربتُ عدم إرسال شقيقي وشقيقتي أغراضي اللازمة، فقرّرتُ تدبُّرَ الأمرِ بنفسي، إلى أن ناداني أحد الأمنيين قائلاً: «بدّك تِطلع عالمكتب»، فبادرتُه بالقول: «عأساس أنهَيتو التحقيق».
وقمتُ على مضض ظنّاً منّي أنه «خَلص راحِت عليّي»، ولكن للمفارقة كانت الصدمة الكبرى أنّني سأغادر إلى المنزل في تلك اللحظة. نعم صُدمتُ رغم أنّني داخلياً كنت متأكّداً من إطلاق سراحي ولكنْ ليس بهذه الطريقة».
اللقاء مع اللواء عثمان
هل أوضَح لك أحدُ المسؤولين الأمنيين ما حدث معك قبل أن تغادر؟ يجيب زياد: «قبل أن أغادر التقيتُ للمرّة الأولى باللواء عماد عثمان، وحدّثني قائلاً: صارت ظُليمة بحقّك والقضاءُ أنصَفك. نحن قمنا بما علينا سواء كنتَ فنّاناً أو مواطناً عادياً، التحقيق صار لدى القضاء وستتكشّف الملابسات، وإخلاء سبيلك يدلّ إلى مصيرك، وحقُّ المواطن لا يضيع أبداً. وإذا فقدتَ الأمل في هذا البلد أريدكَ أن تؤمن بأنه لا يزال هناك من يَعملون لهذا البلد، للحقيقة. وانتبِه لابنتِك وإذا أرادت زيارتنا سنكون في استقبالها».
يوم واحد قبل توقيفه
يحرَص زياد على عدمِ الخوض في التفاصيل الدقيقة لقضيته، مردِّداً «لضمان سرّية التحقيقات لا يسعُني التوسّع بالتفاصيل». ويُخبر: «قبل 24 ساعة من توقيفي علمتُ من إحدى جاراتنا أنّ شابَّين حضَرا إلى الحيّ يَستفسران عن منزلي، وأظهَر لها أحدُهما صورةً لي، وسرعان ما أخبرَتني بالأمر، فاستغربتُ واستشرتُ أحدَ رفاقي، فنصَحني بأن أبلّغَ المخفر.
في اليوم التالي كالعادة توجّهتُ لأتمرّنَ على مسرحية جديدة مع يحيى جابر، على أساس أنه ما إنْ أنتهي سأتوجّه إلى المخفر أبلّغُهم، ولكن بينما كنتُ أهمُّ للمغادرة من الموقف، فاجأني شابّان وسحباني بقوّة إلى سيارة رباعية الدفع».
ويتابع محاوِلاً التغلّبَ على الغصّة في صوته: «طمّشوا عيوني»... ولم يُنزع عنّي الرباط إلّا على وقعِ الشتائم والحديث عن العمالة في جهاز أمن الدولة، أوّل ردّةِ فعلٍ لي: «احترِم حالك يا إبن الحلال»، وبعدها دخلنا في نفق طويل»، إذ أمضيتُ أوّل 5 أيام في جهاز أمن الدولة، لاحقاً 54 يوماً في المحكمة العسكرية، ثمّ في سجن روميه، والأسبوعان الأخيران لدى فرع المعلومات».
روميه وبالحصة
لم يَدخل زياد بحياته إلى مخفر، وإذ به بين السجناء في سجن روميه عاجِز عن استيعابِ ما أصابه، ويَروي لنا متأثّراً: «هناك رأيتُ الحياة مِن منظار آخر، كنتُ طوال الوقت كئيباً، قليلَ الكلام، لا أحبّ الاختلاط، دموعي عرض خدودي من دون أن أنتبه».
ويضيف: «وزّعتُ وقتي بين المطالعة، الصلاة ومتابعة الأخبار، وطبعاً كلّ ما يتعلق بقضيتي، وأحياناً كرة القدم». وتابَع: «صُودِف في غرفتي أحدُهم والملقب بالخال، فكان جدّاً لطيفاً يحاول الاهتمامَ بي وتأمينَ قدرٍ ممكن من الراحة نظراً إلى الحالة التي كنتُ فيها»، ويُعلّق ممازحاً: «يِمكن شفِق عليّي وعلى منظري».
كدهرٍ مرّت الدقائق بالنسبة إلى زياد، وأصعبُها فترة الزيارات التي لا تتجاوز الـ 10 دقائق، فيقول: «لم يكن من السهل أن تنظرَ إلى أفراد أسرتك من خلف القضبان، ولمرّتين فقط في الأسبوع، تلاحظ كم أنّهم يحاولون التغلّبَ على ضعفِهم فيما أنتَ وهُم في الحقيقة أضعفُ المخلوقات».
وسرعان ما تلمعُ عينا زياد حين يَستذكر موقفَ شقيقته رنا: «تصغرُني رنا فقط بسنة فهي صديقتي ونتشارَك الرفاقَ أنفسَهم، كانت بحجم مئة رَجل جنبي، تشجّعني وتؤكّد لي أنّها لن تستكينَ وستناضلُ لإحقاق الحق، وأنّها ستقوم بكلّ ما يَلزم لرفع الصوت، كذلك شقيقي رياض لم يقصّر للحظة، فمنهما أستمدّيتُ القوّة».
متى شعرتَ بأنّ الفرج قد لاح؟ يجيب زياد: «في إطار متابعتي للأخبار وللبرامج السياسية، وبينما كنتُ أتابع مع المساجين مقابلة اللواء أشرف ريفي، و»بَق البحصة»، وقال إنّ زياد عيتاني المسجون مظلومٌ، وغيرها من التفاصيل، عندها نَظر إليَّ المساجين في غرفتي نظرةً مغايرة، فيما أنا تنفّستُ الصعداء وكأنّني استعدتُ شيئاً من معنوياتي».
عيد الأم... «طلّتَك الأغلى»
طوال الأشهرِ التي سُجن فيها زياد، أبَت أمُّه أن تزورَه، وهو أبى أن يراها في وضعِه، حتى إنّه لم يكلّمها إلّا بَعد 60 يوماً على توقيفه. ويَروي: «كانت لحظةً قاسية، تعانقَت دموعُنا، عجِزنا عن الكلام، «فرطت بالبكي»...».
يصمتُ، يلتقط أنفاسَه، فنسأله محاوِلين محاربة الدمعة في مقلتيه، ماذا ستكون هديتك للوالدة في عيدها؟ فتُسابقُه والدته بحماسة: «لا أريد هدية، وجودَك وطلّتَك أحلى هديّة، كِل يوم معَك هو عيد». وتعمّ الضحكة أرجاءَ المنزل. ثمّ يقول زياد: «غالباً ما أكتبُ لها كلاماً مؤثّراً، منذ صِغري وأنا الأقرب إلى أمّي بين إخوتي، «منِفهَم بعض ع الطاير».
«غنّوجة بيّها»
لم تكن التجربة قاسية فقط على زياد، إنّما أرخَت بظلالها على ابنتِه لين (11 سنة) التي كانت رفيقة أبيها و»غنّوجتو»، كما وصَفها، وهي كانت يدَه اليمنى على المسرح في أيام عطلتِها المدرسية. فيقول زياد: «لا شكّ في أنّ ابنتي لم تفهَم ما حصَل معي بدايةً، وصُدِمت بعد معرفتها بخبر إلقاء القبض عليَّ، وما عادت تريد الذهابَ إلى المدرسة أو الاحتكاكَ بالناس.
وأكثرُ ما أغضَبها أنّه قبل 3 أيام من توقيفي كنتُ أعتذِر منها لأنّني سأغيب يوماً كاملاً عنها بسبب انغماسي بالتمرين، وكنتُ أعِدها بأنّني لن أتركها، وإذ بي فجأةً أبتعد وأختفي من حياتها». أذكر تماماً تلك الحادثة، في اليوم التاسع من توقيفي، وعندما كان يرمي لي أحدُ الأمنيين الطعام، صرختُ من قلبٍ موجوع، وعدتُ ابنتي بألّا أبتعدَ عنها!».
ماذا ينفَع الاعتذار؟
تتداخَل المشاعر وتتصارَع في صدر زياد، ما بين الشعور بالقرَف، الغضَب، الفرَح، العتب... فيقول: «غاضبٌ طبعاً أنا، غاضبٌ ممّا حصَل، ولكنْ لا أكنُّ الكره أو الحقدَ لأحدٍ لأنني لم أتربَّ على ذلك».
ويضيف: «أنا لستُ صاحب حِقد أو كراهية، كِل القصة أنني أريد حقّي من خلال القضاء. كلُّ مَن شاهد مسرحيّاتي يدرك تماماً نقمتي على طبقةِ السياسيين وأنّني لم أبحث يوماً عن توطيدِ العلاقة معهم. وما حَدث معي فِعلاً زرَع الذعرَ في نفوس اللبنانيين بما أصاب الأجهزةَ الأمنية في لبنان. رحمة الله على الشهيد وسام الحسن، وفرعُ المعلومات فِعلاً يَعمل باحترافية عالية».
في الختام، يؤكّد زياد أنّه ما إنْ يستعيد عافيته، سيعود إلى حياته على المسرح. «متلهّف للعودة، كنتُ أجري مونوغرام ساعتين، الآن من المستحيل أن أقفَ نِصف ساعة، وأشعر «ببلاطة ع صدري»، مشيراً إلى أنه «سيكتبُ بالأسلوب عينِه الذي كان عليه سابقاً، ذاك الناقم والثائر والهازئ، وفي اليوم الذي سيوضَع فيه «روتوش على مساحة الحرّية، رَح بَطّل شغلِة المسرح كِلها من أوّلها».