يصلح تحقيق «نيويورك تايمز» عن قصة اختطاف أفراد من العائلة القطرية الحاكمة في العراق ومفاوضات الإفراج عنهم، مادة تفكير بأحوال سورية بعد سبع سنوات على بدء الانتفاضة فيها على النظام الحاكم، وما أعقب هذه الانتفاضة من حروب في ذلك البلد. فالاختطاف الذي جرى على بعد أكثر من ألف كيلومتر عن سورية جرى تصريفه في الحرب السورية على نحو فظيع. فتولت الدوحة دفع فدية وصلت إلى أكثر من 400 مليون دولار كانت بمثابة تمويل لميليشيات غير سورية تقاتل في سورية. كما رعت بموجبها كل من الدوحة وطهران عملية مبادلة سكانية كانت في الحقيقة أقرب إلى ترانسفير طائفي ومذهبي. وبيروت بدورها لم تكن بعيدة عن الصفقة، فوفق «نيويورك تايمز» فقد وصلت إلى مطار بيروت الدفعة الثانية من حقائب المال القطري، وتسلّمها في مطار العاصمة اللبنانية مسؤولون من «حزب الله»، ناهيك عن حصة الفصائل المقاتلة السنّية من هذا المال.
نحن اليوم في سورية حيال مجزرة مفتوحة، في حين تكشف الوقائع أن حالاً مافياوية تتم إدارتها من أطراف النزاع الفعليين، وهم في معظمهم من غير السوريين. فالوقائع التي ينوء تحتها السوريون في لحظة انقضاء السنة السابعة على انتفاضتهم على نظامهم كاشفة لمشهد يتصدره الأشرار من كل اتجاه. روس وإيرانيون وأتراك وعراقيون وقطريون وإسرائيليون ولبنانيون، ووحدهم السوريون يموتون. أفراد العائلة الحاكمة القطرية اختُطفوا في العراق وأفرج عنهم بصفقة «سورية». حقول الغاز اللبنانية العتيدة يجري تلزيمها بموجب حسابات الحرب السورية فتفوز بها شركات روسية قريبة من فلاديمير بوتين. مخاوف أنقرة من طموحات الأكراد في تركيا يتم تصريفها في الحرب السورية. تل أبيب تتصدى لطموحات طهران في نفوذ على حدودها عبر غارات تستهدف سورية.
المشهد فعلاً قاتم بعد كل هذه السنوات، وما يعني السوريين منه يقتصر فقط على تلك المجزرة المفتوحة على أرقام هائلة من الضحايا وعلى بعض أمراء الحرب عديمي الإرادة والتأثير. واليوم أجادت علينا الأرقام بمزيد من المآسي، واللاعب الإقليمي والدولي يمعن في الاتجار بدم الناس في ذلك البلد. الغوطة في مقابل عفرين. هذه معادلة أخرى وجد السوريون أنفسهم أمامها. فالنظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون التقطوا الحاجة التركية للقضاء على النفوذ الكردي في عفرين وقرروا أنها اللحظة المناسبة للانقضاض على الغوطة. مدنيون هنا ومدنيون هناك. وعشرات آلاف النازحين على طرفي المأساتين، والعالم صامت وقابل في معادلة الدماء في مقابل الدماء. مأساة حلب تتكرر، وأنقرة فعلتها مجدداً.
لا شيء عدمياً أكثر من مشهد السوريين على بعد سبع سنوات على انتفاضتهم وعلى اشتعال حروب العالم كله في بلدهم. وفي مقابل ذلك لا شيء أدعى إلى التفكير بهذه الحال. والتفكير هنا يجب أن يشمل كل شيء، العالم الشرير والجيران المتآمرين، ولكن أيضاً الخاصرة الرخوة التي شكّلتها سورية لكل هذا الشر. فالسكان الذين تمّت مبادلتهم بموجب الصفقة القطرية- الإيرانية هم سوريون، والغوطة وعفرين مدينتان سوريتان، والقول إنها حرب الآخرين غير دقيق على نحو ما لم يكن دقيقاً القول إن الحرب اللبنانية كانت «حرب الآخرين على أرضنا».
المراجعة يجب أن تشمل كل شيء بما فيها الكيان نفسه، وبما فيها المصالح الحقيقية في العلاقة مع كل الدول المرتكبة. العلاقة مع العراق ومع لبنان بصفتهما من أصحاب الأيادي غير البيض، ويجب أن تشمل افتراق المصالح والتقاءها مع كل من أنقرة وتل أبيب وموسكو. ثم أن حضور كل هؤلاء في سورية وغياب الإرادة السورية مؤشر أيضاً إلى معانٍ يجب إعادة التفكير فيها. فالبعث، وهو التجربة شبه الوحيدة بعد الاستقلال، لم يُبقِ على شيء ولم يُنتج حصانات ولم يؤسس لغير الحروب.