عاجل حزب الله إلى نفي ما نشره موقع إيراني من كلام منسوب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خلال لقاء مع الجالية الإيرانية في لبنان. علماً، وللغرابة، أن ما نشره موقع "فردا نيوز" نشره بشكل مفصل موقع قناة الكوثر التابع لمنظمة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية الرسمية.
لم يكذب السيد حسن نصر الله في ما نقله الإيرانيون عنه. ما أعلنه جاء أمام وفد إيراني، وبالتالي فإن كلامه، يكاد يكون داخليا لا يحتاج إلى النفاق الذي تحتاجه السياسة حين تقال من على المنابر باتجاه العامة.
يتّسق زعيم حزب الله في ما قاله قبل أيام مع ما أدلى به في بدايات نشأة حزب الله في ثمانينات القرن الماضي. جاهر الرجل آنذاك أن هدف الحزب هو إنشاء دولة إسلامية في لبنان لا تكون مستقلة بل تابعة لدولة الولي الفقيه في إيران. ويتفق كلام نصرالله الجديد مع ما قاله قبل سنوات من أنه وحزبه جنود لدى الولي الفقيه، وبالتالي لا جديد في المضمون عن قديم تسعى السياسة لمواراته، ولم يسعَ نصرالله يوماً للتراجع عنه.
صدق نصرالله أيضا في القول إن اعتقاد حزب الله بولاية الفقيه يفوق اعتقاد الإيرانيين أنفسهم، فـ”معتقدنا أقوى منهم، ونحن نؤمن أن طاعة ولاية الفقيه هي طاعة المعصوم”. فزعيم الحزب لطالما ربط شرعية وجود الحزب بديمومة ولاية الفقيه كنظرية وأمر واقع، فيما أن شرعية وجود إيران، وحتى نظامها السياسي، لن تكون بالضرورة رهن تبدل يطرأ على شكل الحكم في طهران، حتى في ظل الجمهورية الإسلامية.
والحال أن حزب الله نجح خلال العقود الأخيرة في إقناع السواد الأعظم من شيعة لبنان بأن وجودهم (وليس رخاءهم وازدهارهم واستقرارهم) رهنٌ بسلامة ولاية الفقيه، وربما بسلامه علي خامنئي بذاته.
نجح الحزب في اقتلاع شيعة البلد من تاريخهم الأصيل بالمنطقة ومن مساراتهم العتيقة داخل التيارات الوطنية العروبية العابرة للحدود ومن دينامياتهم الفاعلة داخل التيارات التي راجت تحت سقف المقاومة الفلسطينية منذ الستينات من القرن الماضي… إلخ. فلا يقرأ نصرالله تاريخ الشيعة إلا من حقبة ظهور السيد موسى الصدر بصفته من أيقظ الشيعة من سباتٍ عتيق.
يُسجل لنصرالله صراحته وصدقه في التعبير عن الكيفية التي يرى بها زعيم حزب الله الوجود. فالعالم في رؤيته مقسّم إلى شيعة وغير شيعة، والتاريخ وفق قراءته هو شيعي ينتج شيعةً جرى تسننهم وتنصيرهم. داخل هذا الإبحار المعرفي تسقطُ طرابلس وصيدا وجزين وغيرها داخل الإمبراطورية الشيعية المتخيلة، ويصبح ميشال عون من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب. وفي ذلك بحث عن روائح الشيعة خلف الأحجار وبين السطور وفي متن الأنساب وخرائطها البيولوجية.
لا يعتبر نصرالله التحالف مع عون اعترافا بشراكة مع تيار مسيحي أو اعترافا بموقع المسيحيين داخل لبنان ما قبل جمهورية البلد الإسلامية الموعودة، بل أن في “ورقة التفاهم” تبريرٌ فقهي يختصرُ الحلف بين السيد الشيعي والجنرال الماروني بكون الأخير سليل خليفة المسلمين الرابع.
ينهل نصرالله عقيدته من سلوك يروم الانتقام من تاريخ يمتد إلى عصور “ابن تيمية والعباسيين والعثمانيين”. لا يعترف الرجل بما طرأ على الزمان بعد ذلك، فالتاريخ مختصر مجتزأ مبتور لا يرى به إلا محرومية شيعية جاءت ولاية الفقيه في إيران لتضع حداً لها.
والمحرومية سلعة دائمة لا تبور وجب تسويقها تحريا لمشروعية وجود، بحيث أن “الشيعة كانوا مضطهدين” في لبنان، في ما قاله للوفد الإيراني الزائر، إلى أن ظهر السيد موسى الصدر (الإيراني وفق تصريحاته) وحزب الله (الإيراني في انتمائه وفق تأكيداته).
بشفافية وصدق مطلق يعتبر نصرالله أن ولاء الشيعة هو لإيران. صدر ذلك عن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أبريل 2006، وكان ذلك تهمة استدعت ردوداً شاجبة في ذلك الحين.
أما اليوم فبات ذلك الولاء ثابتة من ثوابت الوجود الشيعي في العالم، إلى درجة أنه يأخذ على الإيرانيين أنفسهم ثورتهم الخضراء عام 2009. يقول الرجل إنه ذهب إلى إيران والتقى قادة هذه الثورة وأخبرهم أن “جميع أعداء إيران سعداء، وجميع الشيعة في العالم منزعجون ممّا حدث”.
يخبر نصرالله، وهو زعيم حزب سياسي لبناني ممثل في مجلس النواب اللبناني ومشارك في الحكومة اللبنانية، الحضور الإيراني الزائر، أن مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني، “ونعتبر تنفيذ أوامر ولي الفقيه واجبا إجباريا”. يحسم الرجل أمر موقع ولاية الفقيه في لبنان وهو موقع غير محسوم لدى الشيعة أنفسهم كما لدى فقهائهم.
سبق أن همّش حزب الله المرجع الشيعي اللبناني الراحل السيد محمد حسين فضل الله بسبب رفضه لولاية الفقيه، فيما أمرُ هذه الولاية مرفوض من آية الله علي السيستاني في النجف في العراق، كما هو مرفوض من مراجع أخرى، وتعتقل سلطات طهران هذه الأيام رجل الدين الشيعي حسين الشيرازي، نجل المرجع صادق الشيرازي، لانتقاده ولاية الفقيه واعتبارها شكلا “فرعونيا” لاستعباد الناس.
نصرالله صادق في قناعاته وهو حرٌّ في ما يعتقده وما يؤمن به. لا ينطلق الرجل من أي عقائد وضعية تتحدث عن عروبة ووحدة ودفاع عن نظام ممانع ضد العدو الصهيوني، فكل ذلك جعجعة ومن لوازم الشغل من أجل هدف واحد هو التشيّع. سبق أن تردّد ذلك بشكل جلف بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق ورواج الأحزاب الدينية الشيعية هناك. وما كان صدر في العراق وأفصح ويفصح عنه السيّد في لبنان الآن هو العمود الفقري لرؤية ولاية الفقيه للعالم وللشيعة في هذا العالم.
لا يقاتل حزب الله في سوريا من أجل بشار الأسد. يقول نصرالله “نحن نقاتل من أجل التشيع، ولولا حزب الله وإيران لسقطت سوريا، الشيعة اليوم في ذروة قوتهم بالمنطقة”.
وما يجاهر به زعيم حزب الله في العلن هو خطاب الحزب الداخلي الذي على أساسه يدفع بالشيعة للموت في سوريا وتجري “تهنئة” الآباء بـ”شهادة” أبنائهم هناك، ذلك أن في الموروث العقائدي والتاريخي منذ شهادة الحسين ما يستحق شهادة الشيعة من أجل التشيّع.
الشيعة في عرف ولاية الفقيه وفي عرف نصرالله ليسوا عراقيين أو لبنانيين أو أفغان… إلخ. الشيعة هم شيعة ووظيفتهم أن يكونوا شيعة، ذلك أن انتماءاتهم الوطنية تستدرج حقوقاً وواجبات وطنية تنص عليها الدساتير، فيما أن ولاية الفقيه هي فوق كافة الدساتير.
ثم أن انتماء الشيعة لبلدانهم بقوانينها وقواعدها وظروفها هو انتماء للحاضر والعصر، وهو انتماء للحياة، فيما أن انتماء الشيعة لشيعيتهم فقط المتمثلة في هذا العصر بولاية الفقيه في إيران، هو انتماء للماضي والتاريخ وأوجاعه، وهو انتماء للعدم، ذلك أنه مطلوب من أجل بقاء الولاية والولي أن يكون الشيعة دائما شيعة جاهزون للموت من أجل الهدف الأسمى: التشيّع.