يقول سياسيون متابعون للعلاقات اللبنانية ـ السعودية وما تمرّ به من مراحل إنّ الاهتمام السعودي بلبنان سيتعاظم في قابِل الايام والاسابيع مع إعادة تعيين الوزير المفوّض وليد البخاري رئيساً للبعثة الديبلوماسية السعودية في بيروت وانتقال السفير وليد اليعقوب الى مهمة جديدة في الرياض، بحيث إنّ المملكة ستعمل من خلال الدور الذي سيؤدّيه البخاري مجدداً على تكريس النهج الجديد في العلاقات مع لبنان والذي بدأته منذ تولّى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز العرشَ الملكي، والذي توسّع وتشعّب مع توَلّي الامير محمد بن سلمان منصبَ وليّ العهد وإطلاقِه مشروعَ «رؤية المملكة 2030»، أي مشروع تأسيس «المملكة العربية السعودية الثانية» بعد المملكة الأولى التي أسّسها الملك الراحل عبد العزيز آل سعود في 23 أيلول عام 1932 من القرن الماضي.
ويُنتظر أن تكتسب زيارة العلولا الجديدة للبنان أهمّية كبيرة بعد عودة البخاري مجدّداً إلى مهمته السابقة في بيروت، ففي أجندة البخاري قضايا متعددة ومهمّات متشعّبة سيعمل على إنجازها لتضافَ إلى سجِلّ مهمّات كثيرة كان قد نفّذها بنجاح خلال الفترة السابقة من تولّيه رئاسة البعثة الديبلوماسية إلى حين تعيين اليعقوب سفيراً، حيث انتقل بعده إلى الرياض ليتولّى مهمّة مساعِد وكيل الخارجية لشؤون المراسم قبل أن يُعاد انتدابُه في مهمّته الجديدة أخيراً إلى لبنان. ذلك أنّ العلولا المكلّف بالملف اللبناني في الإدارة السعودية سيَستفيد كثيراً ممّا بناه البخاري من شبكة علاقات مع مختلف المرجعيات والقيادات السياسية والدينية، وكذلك القيادات والقوى الحزبية والفعاليات التي يؤكّد كثيرون أنه ترَك لديها انطباعاً عن علاقة جديدة بين السعودية ولبنان تحاكي روحَ العصر والواقع الجديد الذي يعيشه البلدان والمنطقة في هذا المرحلة، وتعيد إلى الأذهان طبيعة الزمن الجميل من العلاقة التاريخية التي تربط بين البلدين منذ أيام المهاجرين اللبنانيين الأوائل الى المملكة ايام الرئيس حسين العويني وأمين الريحاني وما تلاهما تباعاً ممّن كانت لهم صولاتٌ وجولات في تمتين العلاقة بين البلدين وصولاً الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي ترتاح الرياض، على ما يرشح من معلومات، إلى التعاطي مع النهج الذي اتّبَعه في العلاقة اللبنانية ـ السعودية منذ توَلّيه رئاسة الحكومة عام 1992 وإلى حين استشهاده في 14 شباط 2005.
والمطّلعون على موقف المملكة وطبيعة العلاقة الجديدة التي تصوغها الآن بينها وبين لبنان يؤكّدون اهتمامها الكبير باستحقاق الانتخابات النيابية، إذ تعتبره استحقاقاً مهمّاً جداً بالنسبة الى مصير لبنان ومستقبله، وإنّ إعادة تكليفِ البخاري رئاسة بعثتِها الديبلوماسية فيه تتّصل بالأهمّية التي توليها للاستحقاق النيابي، فالرَجل راكمَ في الفترة السابقة التي قضاها في لبنان خبرةً واسعة في الشؤون والشجون اللبنانية، وترَك بصمات مؤثّرة وإيجابية لدى كلّ الاوساط التي تفاعلَ معها أو تفاعلت معه، ما مكّنه من فهمِ طبيعة النسيج اللبناني وفسيفسائه الحسّاسة، واستطاع من خلال الملتقيات الثقافية التي عَقدها في مقرّ السفارة السعودية، أو في دارة السفير في اليرزة والتي نبشَ فيها تاريخَ بعض القيادات اللبنانية التاريخية وعلاقاتها مع المملكة، إنّما يؤسّس لعودةِ العلاقة بين البلدين الى عصرها الذهبي وتأطيرها بواقع المملكة الجديدة الذي يضطلع وليّ العهد الامير محمد بن سلمان ببنائها يَدعمه الجيلُ السعودي الشاب المتطلّع الى مملكة منفتحةً أكثر فأكثر على العالم ومماشيةً لروح العصر على كلّ المستويات غيرَ متخلّيةٍ عن الاصول والثوابت والقيم التي تعتنقها عبر تاريخها الحديث والمعاصر.
ولذلك، فإنّ المسألة بالنسبة الى المملكة هذه المرّة، ولمناسبة الاستحقاق النيابي، مَن تدعم من الأفرقاء السياسيين ومَن لا تدعم، فهي على الرغمِ من أنّها لا ترى ضيراً إنْ فاز حلفاؤها وأصدقاؤها بالاكثرية النيابية، إلّا انّها في الوقت نفسه باتت مقتنعةً مع كثيرين من الراسخين في عِلم السياسية اللبنانية بأنّ لبنان لا يُحكَم إلّا بالتوافق، ولذلك فإنّ المسألة لديها هي تشجيع غالبية المكوّنات اللبنانية على الاتجاه الذي يَخدم طبيعة العلاقات الجديدة بين البلدين، وأن تقتنع هذه المكوّنات أكثر فأكثر بجدوى هذه العلاقات، بغضّ النظر عمّن سيفوز به هذا الفريق أو ذاك من مقاعد نيابية في مجلس النواب المقبل، ومن ثمّ مقاعد وزارية في الحكومة التي ستنبثق من الأحجام التمثيلية التي ستفرزها الانتخابات والتي تبقى شأناً لبنانياً داخلياً صرفاً، في اعتبار أنّ السلطة التشريعية أو التنفيذية في لبنان هي خليط من كلّ ألوان الطيف السياسي والطائفي، ومِن الطبيعي أن تتوافق نيابياً هنا وتختلفَ حكومياً هناك في السياسة كما في التعاطي مع القضايا المتنوّعة المتصلة بحياة اللبنانيين وبعلاقات بلدِهم مع محيطه العربي والمحيط الأبعد فالأبعد.
ويبدو أنّ المملكة تُجري من خلال التحرّكِ الديبلوماسي في لبنان تقويماً للمرحلة التي سادت أيام العهد الرئاسي السابق، وكذلك للمرحلة التي بدأت مع العهد الحالي، وذلك تحضيراً لخطواتٍ ومبادراتِِ ستتّخذها لاحقاً وعلى مستويات عدة تتصل بمستقبل العلاقات اللبنانية ـ السعودية في ظلّ السلطة الجديدة المقبلة، ويُنتظر أن يؤشّر هذا التحرّك في بعض معارِجه ومطاويهِ الى ما ستكون عليه طبيعة هذه المبادرات.. والبعض يقول إنّ الموقف السعودي المنتظر تبلوُره في مؤتمر روما 2 اليوم، ثمّ الموقف في مؤتمرَي باريس وبروكسل الشهر المقبل، سيكون فيه من المؤشّرات ما يَكفي للاستدلال إلى طبيعة الواقع اللبناني ـ السعودي الراهن واللاحق.