هذه الحكمة
"الدهر يومان، يومٌ لك ويومٌ عليك، فإن كان لكَ فلا تُبطر، وإن كان عليكَ، فاصبر".
هذه الحكمة لإمام الزهد علي بن أبي طالب تستحق أن تكون قاعدة مطلقة، سواءٌ أكان ذلك في التربية البيتية أو المدرسية أو في التعليم الجامعي، وخصوصًا المتعلق منه في الجانب الاجتماعي؛ كذلك في فهم التاريخ، كما في ممارسة السياسة، ولدى القادة العسكريين، كما لدى الديبلوماسيين، لدى التجار كما لدى المرابين، لدى الفقراء كما لدى الأثرياء، لدى "قبضايات" الشوارع وأصحاب السطوة، كما لدى المستضعفين والذين لا حول ولا قوة لهم.
هذه الحكمة تستحق أن تُنتزع من ألسنة الببغاوات لتدخل وتستقر في عقول المؤمنين، أن تُخلَّص من الضغينة لتسري في قلوب المحبين، وأن يُعتَق إمامُها، إمام الحكمة، من ضروس الدجالين والمنافقين والمرائين والطامحين الذين استولوا على اسمه واسم غيره فتسلطوا على رقاب الناس باسم هذا النبي أو ذاك الإمام.
هذه الحكمة تشير إلى جوهر ما نتعرض له من تبدلات وتقلبات في صروف الدهر تضع أبناءنا وأحفادنا بعد كل بضعة أجيال في أتون حربٍ دامية تحرق الأخضر واليابس وتهدم كل ما يمكن أن نسمّيه بناءً لتنثره في مهب عواصف التغيير الحاد المصحوب بروح التشفي والانتقام.
هذه الحكمة تعكس روح الوسطية والاعتدال البعيد عن التطرف الذي يغلب في كثير من الأحيان على المنتصر كما يغلب على المهزوم فيَظهر فعلُه بعد حينٍ عنيفًا يدمّر استقرار المنتصر وسكينته وركونه إلى القوة والظفر والتغلّب، لكن هذا الفعل العنيف المتطرف لا يؤمِّن لمن كان مغلوبًا إلّا نصراً موهومًا، موقتًا، تتربص به غوائل الزمن.
هذه الحكمة ميزان توزن به النفوس النازعة إلى التطهّر من شر الكِبَر والتعالي المسيء إلى الله قبل عباده وتكشف أرضية الغرور المتقلبة ونشوة التسلط العابرة.
هذه الحكمة تستحق أن تكون ميدانًا للتباري في السلوك الحضاري، بين الأفراد كما بين الكتل والجماعات البشرية؛ للسلوك الحضاري، في البحث عن حلول لشجار بين جارَين، كما في البحث عن حلولٍ للصراعات التاريخية الكبرى المستعصية.
هذه الحكمة تحثّنا وتسألنا: كيف نجعل من الأيام، كل الأيام، لنا... ولغيرنا؟
بكل محبة... تدبّروها إذن.
***
أكثريات وأقليات
نظرتنا إلى الشعوب على أنها أكثريات لها الحق في أن تمارس الحكم وأقليات يجب أن تطي وتخضع، أو أقليات خائفة يجب أن تحكم لتقي نفسها من ظلم الأكثرية، من أهم أسباب مشكلاتنا وإعادة إنتاجها. لا حل بدون دولة المواطنة وحقوق المواطنة بغض النظر عن الأصل والمعتقد، وفي إطار يحترم القوانين القائمة على المبادئ والأخلاق العامة والقيم المشتركة للمجتمع، لا حل إلا بالتخلي عن الأحلام والمشاريع الامبراطورية والطموحات الواهية لِدَهن الكرة الأرضية بلونٍ واحد، لا حل إلا بتعزيز الهويات الوطنية المنفتحة على التعاون والسلام، النابذة عقائد الإقصاء والتكفير والهيمنة بكل أشكالها، لا حل إلا بدولة تحمي الضعفاء بقضاءٍ مستقل يتساوى أمامه الجميع، وبتوزيع عادلٍ للثروة على شكل خدمات وشبكة تأمينات اجتماعية في مقدمها تأمين صحي وآخر ضد البطالة، وتعليم مجاني ونظام رعاية للشيخوخة والإعاقة ونظام تقاعدي شامل، والكف عن الرشى الانتخابية التي أصبحت سياسة بديلة لذلك، قبل الانتخابات وبعدها.
***
ديموقراطية "التمثيل"
في مؤلفه "روح الشرائع" الصادر في العام 1748 طرح مونتسكيو (1689-1755) فكرة فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فصلاً تامًّا، وعلى رغم أنه أدان نظام الملكية المطلقة الذي عرفته أوروبا حينذاك وطالب بتحديد سلطات الملك فإنه لم يطالب بإنهاء المَلَكيّة، ورأى أنه من الأفضل للشعب أن تكون السلطة التنفيذية بيد شخص واحد (الملك) لا بيد مجموعة، معتبراً أن الملك يمثل الشعب على رأس هذه السلطة وأن الشعب يُصدر قوانينه من خلال ممثلين ينتخبهم، مبديًا إعجابه بنظام الحكم الملكي في بريطانيا. لكنَّ معاصره جان جاك روسو (1712-1778) الذي اتفق معه في شأن مبدأ فصل السلطات، عارضه في شأن المَلَكيّة والتمثيل النيابي، فذهب إلى القول في مؤلفه "العقد الاجتماعي" الذي صدر في العام 1762: "إن سلطة الدولة نابعة من إرادة الشعب وإن هذه الإرادة لا يمكن تمثيلها، فالنواب المنتخَبون هم منتَدبون لا يحق لهم تشريع أي قانون وتصديقه وجعله نافذاً من دون موافقة الشعب عليه، فالقانون الذي لا يوافق عليه الشعب ليس قانوناً على الإطلاق ولا يساوي إلاّ صفراً مجرداً، فالشعب الانـكليزي يظن أنه حر، لكنه بذلك يخدع نفسه".
وأضاف: "فقط خلال عملية انتخابه للنواب يكون الشعب حرّاً، وعندما تنتهي عملية الانتخاب فإنه يعود إلى العبودية". اعتبر روسو أن المساواة بين المواطنين لا يمكن أن تقوم إلا إذا اشترك كل الشعب في صنع القرارات والقوانين، لذلك لم تكن "ديموقراطية بريطانيا" نموذجه المفضل، وإنما الديموقراطية المباشرة التي كانت تمارسها أثينا في العصر القديم.
***
قُلْ يا أيّها الناخبون...
(جواد الساعدي)