هذا الواقع ليس حكراً على لبنان، فهو قاعدة عامة لمبدأ خوض الانتخابات في المطلق، والهدف من ذلك واضح: جلب اكبر عدد من تأييد الناخبين من خلال اللعب على وتر غرائزهم. وبما أنّ الانقسام في لبنان يرتكز في جوانب اساسية على التنوّع المذهبي والطائفي، وبما أنّ القانون الانتخابي الجديد يضاعف الحاجة الى استمالة القواعد المذهبية والطائفية بسبب الصوت التفضيلي. لذلك فإنّ الاشتباكات السياسية الحادة تصبح مفهومةً كونها من متطلّبات المرحلة مع توقّع تفاقمها ووصولها الى الذروة مع فتح صناديق الاقتراع.
في هذا الاطار يمكن إدراج السجال السياسي الحاد الحاصل بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والوزير جبران باسيل. فبري يسعى الى شدّ عصب الساحة الشيعية ورفع مستوى الاقتراع الشيعي ليصل الى نحو 70 % وهي نسبة المشاركة في انتخابات 2009، وباسيل يريد تعزيزَ حصّة «التيار الوطني الحر» من خلال تصعيد المعركة، وخصوصاً في ظلّ المنافسة الموجودة مع الأحزاب المسيحية الأُخرى، وأيضاً بعد المشكلات الداخلية بسبب الترشيحات التي اعتُمِدَت. وفي اختصار المواجهة السياسية والإعلامية الحاصلة تفيد الطرفين، لكنّ حدودَها الزمنية تنتهي في 6 أيار المقبل.
وخلال المعركة النيابية السابقة عام 2009 بلغت المواجهات ذروتها وسط انقسامٍ سياسيٍّ حاد جاء ترجمةً لبنانية للانقسام الاقليمي بين السعودية وايران، وساهمت هذه الحملات العنيفة والحادة في رفع نسبة المشاركة الى مستويات قياسية، ولكن وبعد إقفال الصناديق وإعلان النتائج هدأت الأجواء فجأة، وبدل ترجمة نتائج الانتخابات في السياسة، زار الرئيس سعد الحريري دمشق وتمّ اعتمادُ مبدأ «الثلث المعطل» الحكومي في كل التشكيلات الوزارية اللاحقة.
في المقابل يخوض الحريري «خطته» الانتخابية من خلال تموضعه السياسي الجديد والذي باشر به منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، والذي تمّ تنقيحُه بعد زيارته الاخيرة للسعودية.
ويسعى الحريري الى تظهير موقعه السياسي من خلال تحالفاته الانتخابية بالاستمرار في الإمساك بـ»التيار الوطني الحر» بإحدى يديه، وإعطاء يده الاخرى لـ»القوات اللبنانية» وبالتالي الجمع بين الاثنين إذا أمكن، وإلاّ فتوزيع «التفاهمات» بينهما. وفي الوقت نفسه الإبقاء على خيوط التواصل مع «حزب الله» من تحت الطاولة.
وخلال زيارته الأخيرة للسعودية اعتقد الحريري أنه سجّل نقطة لمصلحة سياسته عندما قال إنّ سياسته في لبنان والتي تعتمد على تأجيل المواجهة مع «حزب الله» وكسب الوقت بدلاً من ذلك في انتظار تبدّل المعطيات والظروف الاقليمية وعلى الساحة السورية، هذه السياسة نجحت في سحب «التيار الوطني الحر» من موقعه السابق بعض الشيء، ولو أنّ أحداً لا ينتظر انقلاباً كاملاً في الموقف.
وأعطى الحريري مثلاً على ذلك وهو موقف باسيل الداعم للتحكيم الدولي في قضية النزاع البحري مع إسرائيل وهو ما يتناقض كلياً مع موقف «حزب الله».
لكن في المقابل لا يبدو «حزب الله» قلقاً من العلاقة الاستراتيجية التي تربطه بـ»التيار الوطني الحر»، لا بل على العكس، فهو مطمئن الى تفاهمه الكامل مع رئيس الجمهورية، وكذلك مع وزير الخارجية حول الثوابت الكبرى وهو ما التزم به عون وباسيل في أكثر من محطة مفصليّة. لكنّ الحزب يدرك أنّ الخلاف الناشئ يحمل نكهةً إنتخابية وأسباباً تفصيلية داخلية، وهو ما يحاذر دائماً الانزلاق فيه على عكس بري الذي يضع الأولوية للملفات الداخلية.
ولا يبدي «حزب الله» حساسية تجاه أيِّ تعاونٍ إنتخابي بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، لا بل على العكس، فهو يرى أنّ أيّ تعزيز للكتلة النيابية لـ»الوطني الحر» يصبّ في مصلحة تعزيز رؤيته الاستراتيجية. وإنه لذلك عندما طلب باسيل خلال لقائه بالحاج وفيق صفا اعتمادَ مرشحه في الدائرة الثانية في بيروت بدلاً من مرشح الحزب السوري القومي الاجتماعي وافق «حزب الله» على ذلك رغم انزعاج القوميين، وكذلك لبّى التعاون الذي طلبه «التيار» في المناطق التي يريدها والتي تتوافق مع نظرته ومصالحه الانتخابية.
وعندما سئل مسؤول في «حزب الله» عن كيفية تعامل الحزب مع «التيار» في حال عاد وطلب تحالفات جديدة في مناطق جديدة بسبب عدم حصول تحالفات له مع الفرقاء الآخرين أجاب المسؤول في الحزب: كل ما سيطلبه التيار في هذا المجال سنلبّيه لاحقاً فنحن هدفنا توسيع كتلة التيار لأنها تصبّ في النهاية في إطار رؤيتنا الإقليمية الواسعة.
قريباً ستُعلن التحالفات الانتخابية وفق ما سبق، سيتحالف تيار «المستقبل» مع «القوات اللبنانية» في بعض الدوائر ومع «التيار الوطني الحر» في دوائر أخرى.
وسترتفع حدّة السجال بين حركة «أمل» و»التيار الوطني الحر». بري يسعى لرفع مستوى المشارَكة وبالتالي رفع الحاصل الانتخابي ما يزيد من حماية لوائح الثنائي الشيعي ويمنع اختراقها. وباسيل يريد قضمَ الحدّ الأقصى من المساحة على الساحة المسيحية تمهيداً للمرحلة اللاحقة، وتثبيتاً لتوازناتٍ نيابيةٍ جديدة تعزّز وضعَه كمرشّحٍ رئاسيٍّ مقبل.
لكن قبل كل ذلك فإنّ استحقاقين لا بد أن يتأثّرا بالتحالفات الانتخابية الحاصلة، الأول ويتعلق بانتخابات رئاسة المجلس النيابي، وطالما أنّ الثنائي الشيعي قادر على اقفال كل الحصة الشيعية فإنّ بري يضمن عودته الى رئاسة المجلس النيابي من دون أيّ عائق اساسي. لكن هذه العودة قد تشهد تراجعاً في نسبة المؤيّدين وفي طليعتهم كتلة «التيار الوطني الحر» والتي ستردّ التحية لبري بعد أن رفض الاقتراع لعون.
والثاني وهو الاهم والاخطر ويتعلق بالتشكيلة الحكومية فمع وصول عون الى قصر بعبدا جاءت التشكيلة الحكومية الاولى انسجاماً مع التسوية التي أدّت الى وصوله (أي عون) الى رئاسة الجمهورية، والحريري الى رئاسة الحكومة.
هذه التشكيلة الحكومية والتي شهدت مفاوضاتٍ صعبة بسبب ذيول التنافس الرئاسي بين عون وفرنجية انتهت بسرعة، لكنّ ولادة الحكومة المقبلة تبدو اكثرَ تعقيداً وأصعب بكثير ممّا سبق، وإذا كانت التسوية الرئاسية ظلّلت التشكيلة الاولى فإنّ نتائج الانتخابات النيابية ستفرض نفسها على تأليف الحكومة المقبلة ومعه فإنّ انقسام 8 و14 آذار انتهى، وكذلك مفاعيل التسوية الرئاسية، ما يجعل المشهد الحكومي أمام حسابات جديدة.
بعض هذه الحسابات سيأخذ في الاعتبار احتمال طرح التصويت في مجلس الوزراء بعدما ظهر هذا الكلام أخيراً ومعه يصبح احتساب التركيبة الحكومية يستند الى هذا الجانب الاساسي، اضافةً الى تبدّل مفهوم التوازنات داخل الحكومة. مثلاً النائب وليد جنبلاط سيستعيد دوره «بيضة قبان» أو «قوة وسطية»، فيما فرْز الالوان سيختلف جذرياً ولأنّ العناوين السياسية ستصبح مختلفة، والقراءة السياسية ستصبح في حاجة الى فصول جديدة من الكتاب اللبناني، فإنّ ذلك يدفع الى الاعتقاد المسبَق بأنّ ولادة الحكومة المقبلة ستكون صعبة وعسيرة ووفق قواعد جديدة مختلفة عن السابق.
تماماً كما قانون الانتخاب الجديد والذي سيجري تطبيقه للمرة الأولى وسيفاجئ كثيراً من الأفرقاء السياسيين. فهؤلاء يقاربون القانون الجديد من خلال ذهنية «قانون الستين»، فيما أفخاخ مغاور القانون الجديد كثيرة ولكنها غير ظاهرة أو واضحة حتى للذين صنعوه، إن كان صحيحاً أنهم مَن صنعوه.