قال رئيس الحكومة سعد الحريري أمام حشد من الأطبّاء العاملين في المستشفيات في أثناء استقبالهم في “بيت الوسط” قبل يومين: “للمرّة الأولى في لبنان نُوافق على قانون (انتخاب) ليس لمصلحة أي فريق سياسي. هناك من يُكابر ويَدّعي أنّ في إمكانه السيطرة على كل الأصوات والتحكُّم في النتائج. أنا أؤكّد أن ذلك ليس سهلاً، وستكون هناك خروق لدى كل الأحزاب. وهذا أمر إيجابي لأنّه يسمح بدخول وجوه جديدة إلى المجلس (النيابي)”.
هل ينطبق كلامه على الواقع؟
اللبنانيّون بغالبيّتهم يشكّون في ذلك. إذ أن الوضع السياسي في البلاد ليس واحداً، وكذلك الأوضاع المناطقيّة والطائفيّة والمذهبيّة والحزبيّة والعشائريّة. والقانون الذي ستجري بموجبه الانتخابات قد يُغيّر عدداً من الوجوه في مجلس النوّاب. لكّنها قطعاً لن تُغيِّر في الاصطفافات وفي الوضع العام الفعلي وليس النظري الذي يجعل التأثير الكبير لـ”شعب” واحد أو لغالبيّته، كي لا نقول السيطرة، على الحياة السياسيّة وعلى المؤسّسات المتنوّعة وقراراتها. ويتمّ ذلك بواسطة “الثنائيّة” التي تُمثِّله من زمان والمؤلّفة من “حزب الله” و”حركة أمل”. فتمثيلها للغالبيّة الشيعيّة الكبيرة لا يشكّ فيه أي مُتابع من داخل ومن خارج لأسباب مُتنوّعة كانت الوصاية السوريّة على لبنان أوّلها، وكان تحرير الأراضي اللبنانيّة المُحتلّة من إسرائيل أهمّها وثانيها. وكان ثالثها انطلاق الصراع المذهبي السُنّي – الشيعي الموجود في لبنان إلى المنطقة كُلّها بعد الثورة السوريّة التي تحوّلت حرباً وإرهاباً عن غالبيّة الشعب السوري الذي قام بها، ثم دخول “حزب الله” طرفاً أساسيّاً وحاسماً فيها. علماً أنّه كان دائماً موجوداً وفي مرحلة سبات إلى أن أيقظته إيران الإسلاميّة منذ قيامها عام 1979 بإيديولوجيّتها واستراتيجيّتها التوسّعيّة الطموحة، ومبدأ تصدير الثورة الذي اعتنقته منذ البداية ولا تزال متمسّكة به. هذا الواقع يجعل من فوز “الثنائيّة الشيعيّة” في الانتخابات التي ستخوضها بلوائح مُوحّدة أمراً مؤكّداً رغم خروقات قليلة جدّاً، وإن غير مؤكَّد حصولها حتّى الآن، سببها تنافسات عائليّة وعشائريّة على النيابة. أمّا الخرق الفعلي الذي يأمل فيه البعض من جهات “تغييريّة” شبابيّة ويساريّة ونسائيّة فحظوظه ليست كبيرة ليس للأسباب الواردة أعلاه وسلاح “الثنائيّة” وللمكاسب التي تحقّقها لمجموعات كثيرة، بل لأسباب أكثر أهميّة، أوّلها انقسامها وعدم اختلافها كثيراً في السلوك والطموحات عن “الثنائيّة” التي تريد الإطاحة بها.
طبعاً ما قاله الرئيس الحريري ينطبق على الساحات السُنيّة والمسيحيّة والدرزيّة لأنّها أساساً مُقسّمة. فبعض الأطراف السياسيّين فيها حليف “إيديولوجي” لـ”الثنائيّة”. وبعضهم الآخر حليف لـ”أمل”. وبعضهم الثالث وهو وازن حليف لـ”حزب الله”. لكن حلفه هذا يهتزّ وبقوّة وسينعكس ذلك سلباً على مكاسبه الانتخابيّة وخصوصاً إذا ما قُورنت بمكاسبه في انتخابات الـ 2009. وبعضهم الرابع حليف لـ”المستقبل”. وبعضهم الخامس حليف للسعوديّة. وظِلُّ إيران مُخيّم على أكثر من جهة. وذلك كلّه يعني أن أحداً من الكبار خارج “الثنائيّة” داخل الشعوب اللبنانيّة الأخرى لن يُحقِّق انتصارات ساحقة، والنتيجة في النهاية لن تكون مُطابقة لما قاله الحريري. فالانطلاق من كتلة نيابيّة شيعيّة شبه كاملة التمثيل ومن حلفاء لها في 8 آذار وربّما 14 آذار رغم انهيار هذا التقسيم قد يُمكِّن “حزب الله” وحليفته “أمل” من أن تكون لهما كلمة راجحة في مجلس النوّاب، تُعطّل تغييرات كثيرة يريد أخصامهما بل أعداؤهما تحقيقها، وفي مُقدّمها حلّ مشكلة سلاح “الحزب” وإبعاد لبنان عن إيران وإعادته إلى الحضن العربي ممثّلاً الآن بالسعوديّة…
هل قانون الانتخاب الجديد مسؤول عن ذلك؟ نعم وإلى حدٍّ كبير، فالنسبيّة مُشوّهة فيه بتقسيم الدوائر وبالصوت التفضيلي وبالأحزاب الطائفيّة والمذهبيّة وبالترشُّح انطلاقاً منهما. وهي لا تستقيم إلّا في وجود أحزاب وطنيّة عابرة للطوائف أو علمانيّة وإن كانت هذه الصفة تُغضب كثيرين في الوسطَيْن المُسلم والمسيحي، وفي وجود دوائر كبيرة مُختلطة أو لبنان دائرة واحدة. وربّما كان من الأفضل، ونظراً إلى تكريس قادة شعوب لبنان الطائفيّة والمذهبيّة بدلاً من الغائهما من العمل السياسي وبدلاً من جعل الولاء للدولة قبلهما، وضع قانون انتخاب أكثري يعتمد الدائرة الفرديّة أو الصوت الواحد للناخب الواحد إلى أن يَهدي الله عزّ وجلّ اللبنانيّين. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أنّ الرئيس السنيورة كان محقّاً في نقده لقانون الانتخاب في “رسالة العزوف عن الترشُّح” التي وجّهها إلى اللبنانيين قبل أيّام قليلة.
في النهاية ليس استهداف الحريري السبب في هذا “الموقف”. لكنّه رئيس الحكومة وبهذه الصفة يتمّ التعليق على كلامه ومواقفه، فضلاً عن أن الاستهداف يجب أن يشمل كل الرؤساء والمرجعيّات والأحزاب وقادتها والسياسيّين لأنّهم يغشّون اللبنانيّين والمجتمع الدولي. فـ”الشعوب” تنتظر ثلاثة مؤتمرات دوليّة، واحد للاستثمار في لبنان بحدود 16 مليار دولار، وآخر لمساعدة الجيش، وأخير لإعادة النازحين السوريّين إليه إلى بلادهم. ونجاحها مُستحيل ليس لـ”بُخْلِ” المجتمع الدولي بل لأنّ اللبنانيّين لا يقولون الحقيقة، والأسئلة الآتية ربّما تشرح لماذا. هل في لبنان دولة ومؤسّسات فعليّة؟ هل هناك قضاء قادر على حماية الاستثمارات؟ هل يتعايش الاستثمار والفساد وهل يمكن القضاء عليه؟ هل يساعد العالم جيشاً يُشاركه “غَصْباً عنه” جيش آخر وإن لبناني بإيديولوجيا إقليميّة؟ ألَمْ يتسبّب لبنان بانتشار النازحين السوريّين في كل قُراه وبلداته ومُدُنه جرّاء رفض قادته إقامة مخيّمات لهم على طول الحدود مع سوريا؟ هل البُنى التحتيّة الحالية تُشجِّع على الاستثمار؟