تمثّل السعودية الجديدة منذ تبوء الملك سلمان بن عبدالعزيز عرش بلاده حلقة أساسية من سلسلة من التحولات التي شهدها العالم في السنوات القليلة الماضية. فإذا كان تصويت البريطانيين على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، ثم انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بمواكبة صعود روسيا-بوتين في المشهد الدولي العام هي علامات للزمن الراهن، فإن ما شهدته السعودية خلال السنوات الأخيرة يعتبر “ثورة” غير متوقعة لم تستشرفها مراكز البحوث في العالم، ولم تتوقعها أجهزةُ العواصم الكبرى.
والحال أن السعوديين الذين كانوا يتأملون اندلاع “الربيع” العربي في شوارع مدن المنطقة، لم يتخيلوا أن ربيعهم سيأتي من منابع أخرى تنطلق من قصور الحكم.
وبغضّ النظر عن تقييم هذا وذاك للتحولات التي طرأت على المملكة، وبغض النظر عن تفاوت الآراء السعودية الداخلية كما تلك في العالم عما تحدثه تلك التحوّلات من “صدمة” محلية وإقليمية ودولية، فإن الأمر بات واقعا يعيد العالم تموضعه حوله بصفته محددا استراتيجيا نهائيا وجب أخذه في أي حسابات تتعلق بمستقبل الخليج والشرق الأوسط كما بموازين القوى في العالم.
واللافت أن السعوديين، كما العالم أجمع، كانوا اعتادوا على رتابة في يوميات المملكة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن الخروج من تلك الرتابة على النحو الذي شهدته البلاد في مجالات كانت محرّمة في السابق، أصاب الداخل السعودي كما العربي كما ذلك الدولي بجمود وتحفّظ وحذر إزاء تطور غير متوقع (ليس بهذا الإيقاع على الأقل)، وأثار لديهم غريزة القلق والتوجس وربما التشكيك في عدم جدية تلك التحولات، بما فضح النزوع الدائم للاكتفاء بما هو ثابت، والخشية من مواكبة ما هو متحول.
وفيما كَتبَ من كانوا يدّعون خبرة في شؤون السعودية في العالم، ظهر مدى الجهل بالطاقات الكامنة التي يمكن للسعودية أن تفعلها، ومن قبل الحاكم نفسه، والتي لم تلحظها قريحة المتخصصين. وحتى حين سعت المنابر البحثية الدولية لتفسير الظاهرة المستجدة، انزلقت تعبيراتها باتجاه إدراج التحوّلات داخل تفصيلات “مشوّقة” داخل أروقة الحكم وغرفه المغلقة.
ولا شك أن قصور المتخصصين عن فهم السعودية في نسختها الجديدة، اضطر العواصم الكبرى لتجاوز فتاوى المتخصصين والدفع بوفودها للاطلاع مباشرة على ما يجري في المملكة ومستقبل ذلك على البلد والمنطقة والعالم.
من يعرف السعودية وسيرة الحكم داخلها يعرف أيضا أن الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان لم يكونا مضطرين للوثوب نحو زمن التغيير صيانة لحكم أو رعاية لمستقبله.
بدا أن مفردات الحكم الحالي تنهل مضامينها من سياق آخر يختلف عما عرفته المملكة في العقود الأخيرة. وبدا أيضا أن العهد السعودي الحالي يتأسس على معطيات البلد وشعبه وثروته وموقعه في العالم، وأن ما اتخذ من تدابير وإجراءات وما صدر من أوامر ملكية، يتأسس على “حاجة”، وليس على ترف للتصدي لتحديات حقيقية تواجه المملكة، وهي تحديات جرى القفز عنها أو تأجيل مقاربتها في السابق.
والواضح أن التحولات السعودية تنهل لزوميتها من مشهد حسابي حقيقي لواقع البلد، بحيث لم يعد باستطاعة المملكة أن تمارس نعمة “الاستثناء” الذي جعلها لعقود تعيش عزلة مجتمعية وثقافية بات العالم يؤمن أنها من ثوابت البلد ومن أصول قيام الدولة السعودية فيه.
يتعرف العالم على السعودية الجديدة التي تطمح، للمفارقة، أن تكون بلدا طبيعيا يشارك العالم قيمه وقواعد العيش في الزمن الراهن. بات مطلوبا من السعوديين أن يألفوا ما لم يعتادوه سابقا من مشاركة في كلفة إدارة البلد والتخطيط لمستقبله، كما في ممارسة يومياتهم على النمط الذي تمارسه شعوب الأرض من التحام بالحياة في واقعها الحقيقي.
لم يعد من عائق “مجهول” يمنع السعوديات من قيادة السيارة، بما يعني أيضا في طيات ذلك، من قيادة مصيرهن كشريكات فاعلات داخل الوطن في العمل والاقتصاد والرأي والقرار. كما لم يعد من مانع قانوني ومنطقي يعزل المجتمع السعودي عن عروض الموسيقى والمسرح والسينما والرياضة. باختصار فإن “صدمة” هذا العالم أن السعودية توقفت عن كونها حالة “صادمة”.
تبدو العواصم الإقليمية كما تلك الدولية متأنية في التعامل مع ظاهرة السعودية الجديدة، كما تبدو الرياض رشيقة في تطوير قراراتها بما يتناسب مع عالم شديد التبدل
من زار السعودية قبل عقود كان يلحظ إجماع النخب على ضرورات الإصلاح والاعتدال والانفتاح. بدت ملامح ذلك في عهد الملك فهد، واشتدت أعراضها في عهد الملك عبدالله. بيد أن هذه النخب نفسها كانت حذرة في التطلع إلى ذلك متمسكة بنظرية الإيقاع البطيء الذي لا يحدث صدمة مجتمعية فيها الكثير من المخاطرة.
يحسب لأهل الحكم في السعودية هذه الأيام أنهم اختاروا مخاطرة كان بإمكانهم عدم الخوض بها. يتحدث الأمير محمد بن سلمان عن العلاج بالصدمة وهو يطل على العالم حاملا تلك “الصدمة” مروجا لها كعلاج تحتاجها بلاده لتسريع وتيرة التحاق السعودية بلغة العصر.
لم يعترض المجتمع على قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة، ولم يمانع بأن تتولى هيئة رسمية وظيفتها الترفيه تنظيم ما كان السعوديون يفتشون عنه خارج بلادهم، ووقفت البلاد تتأمل بصمت يستبطن الدهشة حملات مكافحة الفساد.
وفيما مازال يمكن تخيّل دهشة المتحفّظين على السرعة التي مرر بها الحاكم في السعودية إصلاحاته، يمكن أيضا استنتاج أن السلطة السياسية هي التي كانت مسؤولة في السابق عن عدم العبور نحو هذه الإصلاحات، وأن المجتمع بكافة قطاعاته، حتى تلك التي لطالما اعتبرت تقليدية منغلقة، جاهز للتأقلم ومواكبة الإرادة السياسية في هذا المجال.
وربما يجب ألا يغيب عن البال أن السعودية التي لطالما كانت جزءا من كل في مراحل الحرب الباردة، تعيد اكتشاف وظيفتها الراهنة بصفتها قطبا منفصلا في همومه ومهماته عن تلك التي تشغل واشنطن وباريس ولندن وموسكو.
تقود الرياض خيارات إقليمية تضعها في مواجهة التحديات المتعددة الأجندات، بحيث أن غياب دول عربية أخرى في زمن “الربيع” العربي ألقى على كاهل المملكة حصرية قيادة رؤية عربية تقف مانعا أمام التقدم التركي والإيراني في المنطقة، كما تقف رادعا أمام تيارات الإرهاب الجهادي، كما تعيد ترتيب المشهد الإقليمي المضطرب والمهدد بزوال قواعده التقليدية القديمة.
يحتاج العالم إلى وقت لكي يعيد ضبط ساعته وفق التوقيت السعودي النهائي. تبدو العواصم الإقليمية كما تلك الدولية متأنية في التعامل مع ظاهرة السعودية الجديدة، كما تبدو الرياض نفسها رشيقة في تطوير قراراتها وأدائها بما يتناسب مع عالم شديد التبدل وحاد التحوّل.
تكفي مراقبة البراغماتية التي تتعامل بها السعودية الحالية مع كافة الملفات، بحيث أن في ما يصدر عن ملك البلاد وولي عهده ما يعكس حسن قراءة لموازين القوى وقوانين الممكن والمستحيل.