عندما يغيب الرئيس فؤاد السنيورة عن مجلس النواب المقبل، فإن الحياة البرلمانية اللبنانية تفقد قيمة مضافة فعلية، وعندما يتنحى عن الزعامة السنية المستقبلية، يخسر المستقبليون السنة في لبنان عقلاً سياسياً واقتصادياً راجحاً. اما عندما يهجو الرئيس السنيورة قانون الانتخاب الجديد على هذا النحو الذي جاهر به قبل أيام، فان العملية الانتخابية برمتها تخسر الكثير من شرعيتها وصدقيتها.
الرجل ليس زعيماً سياسياً، ولعله كان ولا يزال يفتقر الى هذا الطموح، لكنه يكتسب صفة الزعامة ومرتبتها ، عندما يُقارن بالباقين الذين أخلى لهم الساحة، وترك لهم شؤون التدبير الحكومي على ما يقال في بلاد المغرب العربي، وفوضهم شؤون التقدير السياسي، الذي اسفر حسب السنيورة في خطاب التنحي الاخير، عن هزيمتين مجانيتين غير مقبولتين، واحدة أمام حزب الله، وثانية أمام التيار العوني.. وهو ما ستشهد عليه نتائج الانتخابات النيابية المشوهة، والمقررة بعد شهرين.
السنيورة مؤشر مهم. خروجه من المعركة الانتخابية لم يكن تسليماً بهاتين الهزيمتين، بل لعله التمرد الاول من نوعه على التيار المستقبلي، وحتى على الأسرة الحريرية، التي تريد ان تفتح الافاق لأجيالها الجديدة، مثلما تفعل بقية العائلات السياسية التي وجدت في المعركة الانتخابية فرصة للتوريث السياسي ، وتسرع بعضها في تقديم الابناء على الآباء، وفي تحويل الانتخابات المقبلة الى إختبار للزعامة داخل العائلة الواحدة، قبل ان تكون إمتحاناً للقيادة داخل الطائفة او المذهب الواحد.
لا يمكن النظر الى تمرد السنيورة بوصفه خياراً مؤقتاً او محدداً بمعركة ما. الارجح أنه سيصبح إعتزالاً تاماً ، لا يعوضه ربما سوى كتابه المرتقب الذي يروي فيه مذكراته ويومياته وتجربته في العمل الاقتصادي والسياسي الى جانب الراحل رفيق الحريري.. والذي أوجز محتواه في خطبة الوداع المؤثرة، في مجلس النواب، التي نعى فيها ضمناً تيار المستقبل في شكله الاول، ورثى فيها القيادة السنية الذاهبة الى المجهول، وكاد يدعو الى مقاطعة الانتخابات وتمزيق القانون الانتخابي الحالي.
إعتزال السنيورة هو بهذا المعنى الهزيمة الثالثة، للتيار المستقبلي وللأسرة الحريرية، وهو بمثابة نكسة جديدة لموقع السنة ومكانتهم في المعادلة اللبنانية.. ودليلٌ على أن أم المعارك الانتخابية ستكون داخل الطائفة السنية، وسيراقبها العالم أجمع بوصفها معياراً للاعتدال او التطرف، للتوحد او التشرذم، وفرصة للوجوه الجديدة التي ستدخل النادي السياسي اللبناني، والتي ستكون بالضرورة جزءاً من لوحة عربية وإسلامية مضطربة، أو على الأقل إنعكاساً لها.
الهزيمة ليست محلية فقط. الكراهية السورية والايرانية للسنيورة لا شك فيها. ولعلها هي المصدر الرئيسي للحقد الذي يكنه حلفاء دمشق وطهران للرجل، ولاسباب معروفة جيداً، تبدأ من المحكمة الدولية ولا تنتهي عند أدائه المستقل، والمؤثر ، في حرب تموز يوليو العام 2006، وما بعدها.. وهو ما وضعه في واجهة صراع سياسي حقيقي ، كاد يودي بحياته أكثر من مرة، وكان يشوه على الدوام سمعته وتجربته الاقتصادية والمالية .
السنة طائفة متحركة، متحولة، قادرة بلا شك على إنتاج بدائل للسنيورة، لكن من خارج الحالة المستقبلية، ومن خارج الارث الحريري. الانتخابات المقبلة هي الفصل الاول من تلك العملية السياسية المعقدة، التي تشبه الى حد ما التجارب التي خاضها الموارنة في فترات سابقة بحثاً عن زعاماتهم الجديدة، وتتجاوز التجارب التي خاضها الشيعة قبل ان ترسو القيادة عند زعاماتهم الحالية.
شرط نجاح السنة في المعركة الراهنة هو أن يحولوا إكتشاف السنيورة المتأخر الى برنامج عمل متقدم: قانون الانتخاب الحالي فضيحة مدوية، يمكن ان يخدم حتى السادس من أيار المقبل. بعد ذلك التاريخ لا بد من كلام سني آخر ، في ذلك القانون الذي قصد إخضاعهم، أكثر من سواهم من الطوائف، لتجربة قاسية، او ربما لعقوبة سابقة لأوانها.