ضجر نواب لبنان من أنفسهم بقدر ما ضجر منهم المواطنون، بعد تسع سنوات أمضوها في البرلمان، أربع منها شرعية، وثلاثة تمديدات بدأت لمدة سنتين تلتهما سنتان ثم سنة واحدة. وعلى رغم طول الإقامة لا يذكر المواطن اللبناني من هؤلاء سوى أسماء محدودة من 128 نائباً، هي أسماء رؤساء الكتل وكبار أعوانهم.
الديموقراطية اللبنانية الملطخة بالتوزيع الطائفي هي أقدم الديموقراطيات العربية المستمرة، لكنها لم تجدد نفسها إلاّ في عدد النواب المنتخبين مرة كل أربع سنوات، وتطوعت أو أجبرت على تسليم السلطة الاشتراعية إلى السلطة التنفيذية، وذلك على دفعات، بدأت الأولى في ولاية رئيس الجمهورية فؤاد شهاب (1958) الذي عزز تأثير استخبارات الجيش في نوع من التشبه باستخبارات جمال عبدالناصر في عهد الوحدة المصرية – السورية وما بعده، والدفعة الثانية بدأت مع الحرب الأهلية (1975 – 1990) حين أرغمت الدولة كلها على الانصياع للمنظمات الفلسطينية والوصاية السورية. أما الدفعة الثالثة فهي استقواء قادة الحرب الأهلية المنتقلين إلى الإدارة السياسية والبرلمان، وتحويلهم السلطة الاشتراعية وسيلة صوغ رغباتهم ومصالحهم في قوانين.
ضجر نواب لبنان من البرلمان الممدد له كما ضجر المواطنون، لكن ما دفع القوى الحاكمة للمسارعة في تجديد المجلس النيابي هو ضغوط أوروبا والمجتمع الدولي، واشتراطهما أجراء انتخابات لاستعادة الثقة بالدولة، واستئناف مساعدة لبنان سياسياً ومالياً للمحافظة على استقراره في منطقة أصبحت مسرحاً لحروب معقدة. وهنا تفتقت «عبقرية» القوى الحاكمة عن قانون انتخابات عماده نسبية مقيدة بوجود قوائم تشمل أصواتاً تفضيلية وتراعي التوزيع الطائفي، مع هندسة للدوائر الانتخابية بما يؤمن استمرار التحكم بالبرلمان، وإن كانت مستعدة لتحمل بعض الخروق من نشطاء المجتمع المدني.
نظام القوائم يفترض وجود أحزاب ذات برامج، لكنه في لبنان ملتبس وحافل بالمتناقضات، فكيف لكتلة سياسية قائمة على زعامة طائفية (هذه الصفة تشمل الجميع) أن تتحالف في قائمة معينة مع أصدقاء، وفي قائمة أخرى مع خصوم هؤلاء الأصدقاء؟ هذا ما سيحدث في انتخابات أيار (مايو) المقبل، وهو يحدّ من استنهاض أنصار هذه الكتلة أو تلك، حين يرغبون بإلحاق الهزيمة بخصومهم في دائرة ثم يجهدون في دائرة أخرى لتأمين انتصار هؤلاء الخصوم.
قارب عدد المرشحين الرقم 900 يتنافسون على 128 مقعداً، وبينهم111 امرأة. إقبال منقطع النظير، خصوصاً من النساء. لكن معظم المرشحين لن يحظى بنعمة الدخول إلى قوائم تحتكر التنافس، وقلة منهم ستجرؤ على تشكيل قوائم قد تحرز خرقاً في دوائر مختلطة طائفياً.
ارتفاع عدد المرشحين والمرشحات دليل رغبة في التغيير، على رغم العقبات الضخمة التي يشكلها زعماء الكتل النيابية، أي زعماء الطوائف. وهنا المشكلة الأكبر في الديموقراطية اللبنانية الجديدة، نعني التركيز على زعيم الكتلة الطائفية الأشبه بديكتاتور (أو خليفة بالمعادل التراثي). ويؤدي صمود الزعيم إلى عرقلة صعود أسماء جديدة في الحياة السياسية، وبث اليأس في الناشطين في الحقل العام. من هنا تكرار الأسئلة عن الوضع الصحي لهذا أو ذاك من الزعماء، وصعوبة معرفة من سيحل محله إذا بقي المكان وبقيت الكتلة: كم يبدو وليد جنبلاط وسليمان فرنجية عمليين حين رشح كل منهما ابنه الأكبر فيشهدان في حياتهما الخليفة على رأس الكتلة.
لبنان مقبل على انتخابات وفق إيقاعه الخاص، لكن هذا الإيقاع الرتيب لم يستطع طمس حلم اللبنانيين بتغيير نلمحه في مرشحين باسم الحراك المدني، يرون أنفسهم الأحق في دخول البرلمان وإنهاء سيطرة قادة الحرب الأهلية على المؤسسة الاشتراعية. حلم صعب التحقق لكنه يتجدد في كل محطة انتخابية علامة حياة.