حفلت نهاية الأسبوع بحدثَين يتعلقان بزيادَين من الوسط الفني. الأول هو الممثل زياد عيتاني الذي اتهم قبل أربعة أشهر بالعمالة لإسرائيل، لتنفجر اليوم قضيته وتقلب طاولة الأمن والقضاء على من يتولاهما، وتذكّرنا بأننا نعيش في بلد متعوب عليه.
الثاني، المخرج زياد دويري وفيلمه "القضية 23" الذي وصل الى نهائيات جائز الاوسكار، ليكشف عن قضية طُمرت مع إقفال ملف الحرب الاهلية من دون معالجة أسبابها وآثارها، ولا تزال انعكاساتها المحورية والجانبية تتفاعل وسع نسيج الشعب اللبناني، وتحمل بذور حرب أهلية محتملة.
القاسم المشترك في قضية الزيادَين، ليس الاسم الأول لصاحبيهما، وانما تهمة العمالة لإسرائيل، التي لاحقتهما، واختُرِعت فصولها في إطار التدجين وخنق حرية التعبير والاستخدام القمعي لكمّ الافواه وازاحة مَن لا يعجب مُصادِري الدولة والدويلة ومَن لفّ لفهما في لبنان.
ففي حين أفلت زياد المخرج من الحملة التي استهدفته لمنع عرض فيلمه بأقلّ خسائر ممكنة، دفع زياد الممثل ثمناً، لن يكون سهلاً محو آثاره وأضراره وتداعياته على حياته، مع انكشافٍ فضائحي لما رافق قضيته، الأمر الذي نسف الثقة بالجسم الأمني والقضائي في لبنان، حيث قد يتبيّن ان الملف مفبرك بأدلّته، وأن الاعترافات هي وليدة الوسيلة التقليدية التي تتم بالضرب والتعذيب في التحقيق.
المقارنة بين قضية الزيادَين، تصحّ تحديداً في اعتماد زياد المخرج سيناريواً يقوم على قضاء نزيه لمعالجة نزاع بين طرفَين في فيلمه، في حين تم استغلال الأمن والقضاء بسيناريو مركّب على افتراءات، نقلت زياد الممثل الذي "اختُطف" من خشبة المسرح الى قفص الاتهام.
الزيادان الحاليان يذكّراننا بزيادَين آخرين طُويت قضيتهما على فظاعتها، هما زياد قبلان وزياد الغندور اللذين اختُطفا وقُتلا في 23/4/2007. وتم تمييع المحاكمات في شأن المتهمين المعروفين الذين يعيشون اليوم حياتهم الطبيعية، بعد توقيف شكلي وقرار ظني لم يبصر تنفيذ مضمونه النور.
استعادة جريمة قتل الزيادَين المغدورَين قبل 11 عاماً، التي كانت حلقة من سلسلة ترويض اللبنانيين بغية الوصول الى واقعنا الحالي مع دويلة فائض السلاح، تؤكد أن ما يثار اليوم في تناول تهمة العمالة للزيادَين الفنانَين لا يقتصر على قضيتهما، وانما على واقع الأمن والقضاء في بلد منخور بالفساد والتسيّب والفوضى، ليأتي انعدام الأمن والأمان ممّن يفترض بأنهما صمّام الأمان للمواطن الأعزل غير المحسوب على مُصادِري الدولة والدويلة.
مرةً تلو مرة، نتبيّن ان لبنان ينحدر نحو النظام القمعي بخطى حثيثة. يترافق هذا الانحدار مع نشاط وهمي لأجهزة أمنية تتنافس في التسويق لكفاءاتها على طريقة سوبرمان في بعض الأحيان، وكشف شبكات وعناصر من دون معطيات مقنعة، اللهم الا اعترافات نعرف انها انتُزعت تحت التعذيب، لتبقى التحقيقات مع غالبية الموقوفين شكلية وإعلامية لغايات يعقوبية تكرس المخططات المرسومة.
في هذه المعمعة الأمنية المتواصلة للتدليل على جهود يُراد لها أن تكون جبارة، يأتي انكشاف قضية زياد عيتاني للدلالة على حال استثنائية، تكاد تنحصر أسبابها بالشخصي. ولو كانت الفبركة تتجاوز الحاجة الخاصة الى حاجة تدخل في مخططات إقليمية بأداء محلي، فذلك لعمري ما لم يكن يُسمح بكشفه.
لا ننسى انه تم اختراع ملف متعلق بأغذية فاسدة مع افتضاح "حوزة الكبتاغون"، التي تتابع انتاجها وتصدير بضاعتها بمعزل عن القضاء.
كذلك لم يكتمل التحقيق في ملف "فتح الإسلام" وشاكر العبسي. لا أجوبة حتى تاريخه، لتقتصر الإجراءات على توقيف شبان لا محاكمات لهم، في حين يبدو معروفاً وشبه مؤكد كيف تمّ ارسال العبسي من سوريا الى لبنان، وكيف تم تهريبه ليصبح مجهول المصير، كما هي حال الأسماء المتورطة في جرائم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومَن تلاه من شهداء.
هل يكفي ان يكون القضاء مقتصراً على أداء متعلق بـ"عيّنة غير صالحة للبيع"، في حين تتواصل الانتهاكات والجرائم من دون حسيب او رقيب؟
الأمر ذاته حصل في قضية الشيكات المزوّرة لتعويضات حرب تموز، التي تولّت صحيفة صفراء اتهام الحكومة والهيئة العليا للإغاثة بها، مندِّدةً بنهب أموال المنكوبين في حرب تموز آنذاك، مع معرفة المسؤولين ان المرتكبين هم من البيئة الحاضنة للمقاومة، وأن أحد المتهمين، المعروف بالاسم والعنوان، أوقف لثمانية أشهر ثم اطلق سراحه، وطوي الملف في القضاء، تماماً كما طوي ملفّ مَن قتل الضابط سامر حنا بعد توقيف لفترة مشابهة، تماماً كما طوي ملف الادوية الفاسدة التي اتهم فيها شقيق النائب والوزير محمد فنيش.
اين هو جوزف صادر؟ مع ان الأدلة الواضحة تشير بما لا يقبل اللبس الى هوية من اختطفه، كذلك الأدلة المتعلقة بقاتلي هاشم السلمان.
الامثلة والشواهد والوقائع أكثر من أن تحصى، لتؤكد ان العمالة لإسرائيل ليست اشد فظاعة من تسميم الشعب بصفقات فساد وأدوية فاسدة او أغذية فاسدة او كبتاغون بسعر الفجل.
لا أحد يحاسب حيث تنبغي المحاسبة، ولا أحد يقر بأن حماية الفاسدين والمجرمين ابشع من العمالة لإسرائيل.
ولا أحد يقر بأن المواطن الأعزل في مواجهة كل هذا الفساد في الأجهزة والإدارة، لن يجد من يحميه اذا لم يكن وجهاً عاماً يمكن ان يثير الرأي العام.
على فكرة، ليس الاعتذار ما يلزم في قضية زياد عيتاني، فالمطلوب إجراءات جذرية لتنظيف الإدارة من فاسدين وغير اكفاء مسنودين ومحميين بمَن أوصلهم الى مناصبهم.
ليست أهمية ما جرى لزياد عيتاني تنحصر في انه ابن عائلة تشكل أكبر كتلة ناخبة في بيروت، ولكن في انه مظلوم تم الافتراء عليه كما يتم الافتراء على مواطنين كثر لا أحد يحميهم، ولا أحد يتوقف حيال ما يحل بهم نتيجة الاذلال والاهانات والتعذيب. بعد ذلك يمكن بحث أسباب المظاهر الاجتماعية النافرة في المجتمع اللبناني.
جدياً، يا عيب الشوم على دولة يفتك بمؤسساتها الخراب ويتفاقم بين زيادَين وزيادَين.