تحت عنوان "إشتباك سياسي سيرفع كلفة خدمة الدين العام" كتب جاسم عجاقة في صحيفة "الجمهورية": "تأتي مناقشة تخفيضات الموازنة في ظلّ عوامل داخلية، إقليمية ودوّلية تزيد من التوتّر السياسي وبالتالي لا تُساعدّ على لجمّ خدّمة الدين العام التي من المُتوقّع أن ترتفع نتيجة الإشتباكات السياسية وزيادة حدّة الخلافات في مجلس الوزراء.
تنشط الأحزاب السياسية وماكيناتها الإنتخابية مع قرب إنتهاء مهلة الترشّح وقرب الإستحقاق النيابي الذي أصبح على بعد ثمانية أسابيع. وتدلّ المؤشرات السياسية أن لبنان ذاهب إلى الإنتخابات النيابية على الرغم من بعض المخاوف من عدوان إسرائيلي على لبنان جرّاء الخلاف على الحدود البحرية الجنوبية.
وإذا كان العدوان الإسرائيلي هو حدثٌ وارد نظرًا إلى أسلوب القرصنة الذّي تستخدمه الدوّلة العبرية، إلا أن إحتمال حصول هذا الحدثّ يبقى ضئيلا بسبب التداعيات العسكرية والإقتصادية التي قدّ تطال إسرائيل. بالطبع مثل هذا العدوان سيكون مُكلفًا للبنان ماليًا وإقتصاديًا، لكن الأحداث تُشير إلى أن الدبلوماسية الأميركية نجحتّ في تخفيف حدّة التوتّر بين لبنان وإسرائيل.
الإقتصاد اللبناني وماليته العامة في خطرّ نتيجة عدّة عوامل أصبحت معروفة من الجميع. لكن ما يجب معرفته أن خدمة الدين العام تكبر بشكل كبير نتيجة حاجة الدوّلة الهائلة للأموال بحكم تراجع النشاط الإقتصادي وزيادة الإنفاق مع إرتفاع كتلّة الأجور وإستمرار عجز مؤسسة كهرباء لبنان.
المُشكلة تكمنّ في غياب أي هامش تحرّك مالي للدولة في ظلّ عجز أصبح يفوق الـ 7 مليار دولار أميركي مما يعني أن وتيرة إرتفاع الدين العام أصبحت أكبر (أكثر من 5 مليار دولار أميركي). وما يزيد الصعوبة هو إستحقاق العديد من الإصدارات السابقة هذا العام مع حاجة لإصدارات تفوق الـ 10 مليار دولار أميركي.
هذا الواقع سيطّرح مُشكلة سعر الفائدة التي بحكم العرض والطلب سترتفع حكمًا مما يعني زيادة في خدمة الدين العام إبتداءً من النصف الثاني من هذا العام.
العراك السياسي الذي قد ترتفع حدّته مع قرب الإنتخابات النيابية سيكون له تداعيات كارثية على المالية العامّة".
فخفض الموازنة وما يُرافقها من شدّ حبال على موضوع البواخر وتمويل الجمّعيات وغيرها، قدّ يتسبّب بتوترّ سياسي سينسحب على العمل الحكومي وبالتالي تعطيل إقرار الموازنة ومعها الآمال المُعلّقة على المؤتمرات المانحة.
لكن هذا الخطر ليس بالوحيد، فمجرّد وجود توتر سياسي بين أهل السلطّة يعني إرتفاع كلفة الدين العام بشكل تلقائي كما حصلّ عند إستقالة الرئيس الحريري في أواخر العام الماضي. فسعر الفائدة (إضافة إلى العرض والطلب) يتعلّق بشكل مباشر بالتصنيف الإئتماني للدولة.
هذا التصنيف يتأثر بوضع المالية العامّة (عجز الموازنة، نسبة الدين العام...) كما والوضع الإقتصادي، وبالتالي هناك نسبة تُضاف إلى أسعار الفائدة بحسب مستوى المخاطر والذي ينعكس في أدوات مالية عبارة عن بوليصة تأمين على سندات الخزينة (Credit Default Swap). وتُحدّد أسعار هذه الأدوات بحسب العرض والطلب الذي يعكس مُستوى المخاطر.
هذا الأمر قد يدّفع ببعض المضاربين في الأسواق المالية إلى المُضاربة على سعر صرف الليرة (المُثبتّ مقابل الدولار الأميركي). وإذا كان إحتمال حصول هذا الأمر ضئيلا نظرًا إلى الإحتياطات التي قام بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلا أن كلفة تمويل المصارف قد ترتفع بشكل كبير يصعب معها تمويل عجز الدوّلة.
فالمعروف أن الإقتصادات المُتطورة تعتمد بشكل أساسي على الأسواق المالية لتموّل نفسها كما ولتتحوّط ضد المخاطر (Risk Hedging & Mitigation). لكن هذه العمليات مُكلفة، وبالتالي فإن المصارف اللبنانية سترى كلفة إقتراضها للأموال كما والتحوّط ضد المخاطر أعلى.
البيانات التاريخية للتأمين على سندات الخزينة اللبنانية، تُظهر أن أسعار الـ CDS تتعلّق بشكل كبير بالأوضاع السياسية. ففي كل مرّة كان هناك حدث سياسي سلبي، إرتفعت أسعار الـ CDS بنسب تتماشى وحجم الحدث. على سبيل المثال، عند تعثّر تشكيل حكومة الرئيس الحريري، إرتفع سعر التأمين 50 نقطة. كذلك حصل عند تعثرّ إقرار قانون الإنتخابات العام الماضي وإستقالة الرئيس الحريري...
الأجواء المتوقّعة في جلسة مجلس الوزراء القادمة لا تُبشّر بالخير خصوصًا مع ما يُسرّب في الإعلام عن ربط ملفات إقتصادية ومالية ببعضها البعض. وبالتالي وبفرضية إنفجار الجلسة الوزارية، ستكون التداعيات في الأسواق المالية تلقائية وستنسحب على أسعار سندات الخزينة التي سترتفع بشكل يعكس الوضع المالي والسياسي السيء. وبحسب التقديرات، فإن أي إشتباك سياسي يأخذ طابع التعطيل سيزيد خدمة الدين العام بـ 562 مليون دولار أميركي سنويًا.
هذا الرقم قد يرتفع مع إحتدام الإشتباك السياسي. ومع العجز الموجود لن تنفع أية تخفيضات في الموازنة لتعويض الزيادة في خدّمة الدين العام. فهل يستحق ربح الإنتخابات النيابية هذا الثمن؟
مصرف لبنان الذي تقف صلاحياته عند حدود السياسة النقدية، سيقوم بكل ما يلزم للحفاظ على سياسة الثبات النقدي بشقّيها الفائدة وسعر صرف الليرة. وهنا يُطرح السؤال عن مدى قدرته على القيام بهذه المهمّة في ظل ضغوط سياسية كبيرة لها تأثيرها الأكيد على الشق النقدّي؟
الجواب على هذا السؤال ليس بالسهل، فمصرف لبنان قادر على حماية الليرة من أي هزّة يُساعده في ذلك إحتياطه الكبير ولكن أيضًا هندساته المالية التي عدّلت شروط اللعبة نقديًا لصالح الدوّلة اللبنانية. إلا أن ما يجب معرفته أن مصرف لبنان لن يستطيع ضمان ثبات تمويل الإقتصاد على نفس سعر الفائدة إذا ما إستمرّت المناكفات السياسية وتعطيل القرار الإقتصادي.
من هذا المُنطلق، نرى أن على السلطة السياسية مقاربة الأمر بحكمة وعقلانية وكثير من العلم لأن المناكفات السياسية تلعب دورًا أساسيًا في رفع كلفة الدين العام في وقت نحن بحاجة إلى خفضها.