فالحركة الديبلوماسية الدولية كانت ممنوعة عن لبنان، فيما عواصم القرار كانت قد وصلت إلى قناعة أنّ زيارة لبنان مضيَعة للوقت كون القرار الفعليّ هو في دمشق لا بيروت، فيما الأمر اليوم مختلف تماماً لجهة أنّ دمشق لم تعد موجودة بفِعل الحروب السورية، وبيروت استعادت حضورَها بفعل عوامل عدة أوّلها رفضُ استبدالِ الوصاية السورية عليه بالوصاية الإيرانية، وثانيها رفضُ انتقال الحرب السورية إلى لبنان تجنّباً لتمدّدِها وعدم القدرة على احتوائها، وثالثها رفضُ اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، ورابعُها رفضُ اشتعال حرب داخلية تؤدّي إلى ما سبقَ من عوامل بالإضافة إلى مواجهة أزمة جديدة للنازحين.
ففي أقلّ مِن أسبوعين توزّع الحدثُ بين حركة ديبلوماسية أميركية تأخذ على عاتقها مهمّة معالجة النزاع البحري بين لبنان وإسرائيل، وبين حركة ديبلوماسية سعودية أولويتُها التأكيد أنّها لم ولن تنكفئ عن لبنان ولا عن دعم الدولة والقوى الداعمة لها، فيما تتواصل على خطٍ آخر التحضيرات لمؤتمرات الدعم للبنان من مؤتمر روما المخصّص لمساندة الجيش والقوى الأمنية اللبنانية، إلى مؤتمر باريس المخصص لدعم الاقتصاد، وصولاً إلى مؤتمر بروكسيل المخصّص لمساعدة النازحين السوريين.
وقد أظهرَت استقالة الرئيس سعد الحريري مدى الالتفاف الدولي حول لبنان، وقد نتجَ عنها أربعة بيانات من العيار الثقيل: بيان استثنائي عن الحكومة اللبنانية، وبيان عن جامعة الدول العربية، وبيان عن مجموعة الدعم الدولية وبيان عن مجلس الأمن، وكلّ تلك البيانات أكّدت على استقلال لبنان وسيادته وضرورة التزامه بسياسة نأيٍ بالنفس فعلية تُبعده عن صراعات المنطقة ومحاورها، كما أكّدت على ضرورة تنفيذه للقرارات الدولية وتحديدا ١٥٥٩ و١٧٠١.
وفي كلّ هذا المشهد الديبلوماسي الناشط باتجاه لبنان لا وجود لـ»حزب الله» إلّا في سياق الحد من تأثيراته السلبية على الاستقرار، ولكنّه غائب ومغيَّب عن المفاوضات بكلّ أشكالها، ما يعني أنّ مركز القرار السياسي الذي استعادته بيروت من دمشق أصبح داخل المؤسسات الدستورية وليس في الضاحية الجنوبية مركز قرار «حزب الله».
ولكنْ لا شكّ في أنّ لبنان الرسمي يأخذ بشكل أو بآخر وجهة نظر الحزب تجنّباً لأزمةٍ سياسية واستطراداً دستورية، إنّما تبقى الأولوية لوجهة نظر لبنان الرسمية، وقد دلّت الأزمة البحرية بين لبنان وإسرائيل أنّ الحزب غير قادر على فرضِ إيقاعه الحربي على المفاوضات، حيث وجَد نفسَه بين مطرقة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي قطعَ الطريق باكراً على أيّ استغلال ومزايدةٍ وشدَّد على مسؤولية الدولة وحدَها في مقاربة هذه الأزمة، وبين سندان رئيس الجمهورية ميشال عون الذي أعلنَ تأييده للتحكيم الدولي كمرجعية لحلّ النزاع البحري، وذلك خلافاً لرأي «حزب الله» الرافض للتحكيم.
والعبرة في ذلك أنّ «حزب الله» بقيَ خارج دائرة التأثير في الملف الذي يتذرّع به للاحتفاظ بترسانته العسكرية، ما يعني أنّه عندما تجتمع الإرادة اللبنانية على تحمُّلِ مسؤولياتها الوطنية يَفقد الحزب تلقائياً دورَه وتأثيرَه، خصوصاً متى كان يلتزم لبنان بمعايير دولية واضحة للتفاوض، وخصوصاً أيضاً أنّ أحداً لا يستطيع المزايدة على أحد بالحِرص على حقوق لبنان، فيما كلّ المشكلة سابقاً وراهناً تكمن في المزايدة من أجل رفضِ الحلول السلمية والاحتفاظ بسلاحٍ غير شرعي.
وقد نجَح لبنان في فرض إيقاع ديبلوماسي كان مرفوضاً من قبَل «حزب الله» لمصلحة إيقاع حربي يتولّاه بحجّة ضعفِ الدولة، كما نجَح في قطعِ الطريق مبدئياً على اختراع مزارع شبعا جديدة ولكن بَحرية هذه المرّة، فيما كلّ المؤشّرات تفيد أنّ الحزب انزَلق في مزايدة نفطية وضَعته أمام معادلة دولية-إقليمية مفادُها أنّ التنقيب عن النفط في المنطقة الحدودية اللبنانية - الإسرائيلية يستدعي هدنة طويلة الأمد يفقد «حزب الله» معها إمكانية استخدامِ هذه الورقة لحسابات إيرانية، الأمر الذي يفسّر موقفَ الحزب الساعي إلى ربطِ نزاع بحري طويل بغية إبقاء دوره بعيداً عن التقييد الدولي والمحلي، فعدا عن كونه لا يستطيع القفزَ فوق الضمانات والالتزامات الدولية، فإنّ أيَّ مغامرة من قبَلِه ستدفع كلّ الشعب اللبناني إلى تحميله مسؤولية التفريط بثروته النفطية إضافةً إلى أمنه واستقراره.
ومِن المفيد أخيراً التوقّف أمام المشاهد الآتية: مذكّرة توقيف بحقّ الخزعلي؛ تراجُع الحزب عن مقولة فتحِ الحدود أمام مكوّنات محور الممانعة؛ تحوُّل السيد حسن نصرالله إلى مرشِد ثقافي يوصي بمنعِ فيلم سبيلبرغ من دون نتيجة؛ إنتصار الخيار الديبلوماسي على العسكري في الملفّ النفطي الحدودي وتبنّي لبنان الرسمي التحكيمَ الذي يرفضه الحزب؛ حركة ديبلوماسية غربية وعربية تُظهر أنّ لبنان في صلب الاهتمام الدولي والعربي (...).
وللبحث صلة في الانتخابات والتهويل بإمساك «حزب الله» بالثلث أو الأكثرية، علماً أن لا شرعية لكلّ ما يتناقض مع الدستور والميثاق والفكرة اللبنانية...