منذ عقود عدة، نجحت المجموعة الحاكمة في لبنان في رفع جدار عال بين الواقع الاقتصادي– الاجتماعي وبين الحياة السياسية، بحيث لم تعد القوانين العامة للاقتصاد السياسي تصلح للتعرف إلى ما يجري أو ما سيحدث في هذا البلد.
الدراسات التي تُنشر وتوزع دورياً والصادرة عن مؤسسات محلية ودولية مختلفة، تعلن من دون مواربة أن لبنان يعيش على حافة كارثة اجتماعية. اختلاف المناهج البحثية وطرق وضع المؤشرات بين دراسة وثانية واتساع أو ضيق العينة موضوع البحث، لا تكفي للتغطية على الحقائق التي باتت ملموسة في كل بيت لناحية التدهور الملموس في تلبية الحاجات الضرورية.
لا يحمل تصنيف البقاع، في دراسة نشرت امس، كمنطقة تضم العدد الأكبر من الأسر المحرومة (53.8 في المئة) مفاجأة، حيث تحمل وسائل الإعلام اللبنانية أخباراً يومية عن معاناة أهالي هذه المنطقة. لكن المفاجأة تكمن في قول الدراسة إن نسبة الأسر التي ينطبق عليها هذا الوصف تصل إلى 50.9 في المئة في محافظة النبطية، وهذه من مناطق الجنوب اللبناني التي يفترض أنها استفادت من ضخ كبير للأموال الرسمية والحزبية منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي سنة 2000، فيما يحل الشمال ثالثاً في مستوى الحرمان، على خلاف ما كانت أشارت إليه دراسات سابقة وضعت المحافظة الشمالية في مركز متقدم من الافتقار إلى الحاجات والخدمات الأساسية.
مهما يكن من أمر، لا يبدل تراتب الحرمان من حقيقة الانفصال بين الواقع وبين تعبيراته السياسية. وهذه الظاهرة وان لم تكن جديدة في لبنان، إلا أنها تعبر عن التركيبة الاجتماعية– السياسية التي تضع الهوية الطائفية في موقع المحدد للولاء السياسي بدلا من الانتماء الطبقي الاجتماعي على ما تراه مدارس الاقتصاد السياسي المختلفة.
وقفت هذه الهوية حائلاً دون تطور النظام السياسي في لبنان منذ سبعينات القرن الماضي عندما ظهرت الحاجة إلى الأخذ في الاعتبار التبدلات الديموغرافية والسياسية التي شهدها هذا البلد وحملت قوى وطوائف صاعدة إلى مواقع الاحتجاج على الحرمان المزمن. إعادة تشكيل النظام في اتفاق الطائف، أولت المسألة الاجتماعية قدراً محدوداً من الاهتمام من خلال الدعوة إلى تشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي ظل منذ تأسيسه مشلولاً وغير ذي مغزى. كما أن الطائف والتعديلات الدستورية اللاحقة، أصرا على الطبيعة الحرة للاقتصاد وعلى إيلاء المبادرة الفردية موقع الصدارة في العمل الاقتصادي.
وجاء تطبيق هذين الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية على النظام السياسي الطائفي بمثابة نعمة لمصلحة الجماعات الحاكمة، إذ وضعها في موقع المسيطر على السياسة والاقتصاد والقادر على التعامل مع كل توتر اجتماعي وامتصاصه وتحويله عنصراً معززاً لمنعة الزعامة وقوتها. الطائفة أقوى من المجتمع. والخوف أقوى من العدالة. وباللعب في الحيز القائم بين الخوف والعدالة، تنتصر القيادات الطائفية المروجة للخوف من الطوائف الأخرى التي «تتربص بنا وتهدد بإفنائنا عند كل منعطف».
هذه الأجواء تبدو اليوم هي المعيار الوحيد قبل شهور من قليلة من الانتخابات النيابية التي يفصّلها سياسيو الطوائف على قياس مصالحهم المباشرة، من دون أدنى اهتمام بما يدور فعلا في البيوت والمصانع والمكاتب من برَم واستياء بإزاء حياة لم تعد تشبه الحياة، ومن الشراكة بين أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة وبين الدولة التي تفترس مواطنيها بدل أن تدافع عنهم. لكن هذا لا ينفي أن الجماهير ستصب أصواتها لمصلحة زعمائها المعروفين الذين أوصلوها إلى الفاقة والإملاق. ففي السياسة اللبنانية، لا علاقة بين الفقر وبين من تسبب به بفساده وتسلطه على المال العام.