كانت معضلة روسيا في مجلس الأمن أن الدول الكبرى عرضت عليها «قرارا إنسانيا» ولم تعرض عليها شيئا آخر يشجعها على «شرائه». قالوا لموسكو إنهم يعوّلون على «ضميرها»، ولمّا لم تعرف عما يتحدّثون، فإنها لم تجد أمامها «صفقة» تستوقفها، ولما زادوا الضغوط زادت الشروط للتخلّص من أي مسؤولية والتزامات. فكان لهم القرار الذي جهدوا للحصول عليه؛ حفاظا على ماء الوجه، وكان لروسيا ما أرادت، أي لا شيء يتغيّر، فهي لم تتدخّل في سورية لتبرهن إنسانيتها، بل لتساوم الأمريكيين والأوروبيين على ملفات أخرى ليس بينها الشأن الإنساني.
منذ ما قبل الغارة الأولى لمقاتلاتها وهي تقترح هذه المساومة، لكنها لم تلقَ من الآخرين سوى آذان صماء. كلّما أوغلت روسيا في الجرائم ارتفعت أصواتهم لتوبيخها وشيطنتها في مجلس الأمن، وكلّما فعلوا ذلك تيقنت بأنها تفعل الصواب، فإمّا أن يرضخوا ويلبّوا توقّعاتها وإمّا أن تعاود لاحقا وضعهم أمام عجزهم، فهي غير معنية بـ «القانون الإنساني الدولي» وغير قلقة على سمعتها بالتالي فهي لا تجزع إذا شهروه في وجهها، بل تعتبرهم شركاء لها في قتل الشعب السوري.
لا تزال أطراف «المجتمع الدولي» تعامل روسيا باعتبارها دولة كبرى ملتزمة القانون الدولي، وعلى هذا الأساس تطالبها بأن تحترم - في الأقل - التزامات أعلنتها هي نفسها بالنسبة إلى سورية. لكن روسيا لا ترى سوى الولايات المتحدة وتعتبرها مساوية لها أو متفوّقة عليها في عدم احترام القانون الدولي. وإذا كانت موسكو اضطرّت للموافقة شكليا على القرار المعدّل لمجلس الأمن فإن لعبة توزيع الأدوار في سورية أخرجت إيران من الكواليس لتصبح طرفا علنيا يؤكّد أنه ونظام بشّار الأسد يرفضان أي هدنة، في الغوطة الشرقية أو في سواها.
لا بدّ من أن الروس استحسنوا هذه الخطوة لأنها توضح حقيقة موقفهم، إذ لم تعد هناك فوارق بينهم وبين الإيرانيين والأسديين وباتوا متوجّهين جميعا نحو «الحل العسكري». وما اكتفى المندوب الروسي في مجلس الأمن بقوله تلميحا تكفّل مندوب الأسد بتوضيحه للمتسائلين، فـ «الغوطة، نعم، ستكون حلب الثانية، وإدلب ستكون حلب الثانية أيضا»، وفق ما قال.
هذه هي خريطة الطريق للشهور المقبلة، ولم تكن هناك أي خريطة سواها، لكن انعدام الخيارات لدى الأطراف الأخرى جعلها تأخذ بالأوهام التي نثرتها موسكو تارة عن حل سياسي وطورا عن «مناطق خفض التصعيد». ولعل الوهم الأكبر أن تلك الأطراف لا تزال تُوصف بأنها «تدعم المعارضة»، إنها تستخدمها أو بالأحرى لا تحسن استخدامها في مواجهة مع روسيا وإيران.
أما «الحل السياسي» الروسي فقد فشل، وما كان له أن ينجح في أي حال، هذا إذا افترضنا أنه وُجد أصلا. فلا أصحابه الروس عملوا عليه بجدّية وواقعية، ولا الحليفان الإيراني والأسدي ساعداهم بل بذلا كل شيء لإفشاله، لأنهما منذ إسقاط شرق حلب دأبا على المطالبة باستكمال الحسم العسكري، لكن الروس فضّلوا آنذاك اجتذاب تركيا إلى محورهم على استجابة رغبة الحليفين.
ثم إن الأولوية كانت حينذاك لمنافسة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على ضرب «داعش» وطرده من مناطق سيطرته، وفي المقابل، أسّس الروس مسار أستانا للدول الثلاث «الضامنة» بأجندة خفية/ علنية مفادها: احتواء الفصائل المقاتلة ضد النظام، استخدامها لنسف مسار جنيف وبلورة حل سياسي معها خارج المفاوضات، وترتيب «مصالحة» ما بينها وبين النظام...
كانت تلك تركيبة غبيّة أثبت طابخوها ومروّجوها أنهم لا يعرفون جيدا أيّا من المعارضة وفصائلها أو النظام وميليشياته، أو يعرفونهم لكن الغطرسة الروسية جعلتهم يواصلون تصديق الكذبة، إلى أن صُدمت موسكو بالفخ الذي نُصب لها في «حوار سوتشي»، إذ أرسل النظام ما يقرب من ألف ومئتي مشارك بينهم نحو عشرون ممن ليسوا «شبيحة» ولم يكن عددٌ منهم راغبا في الذهاب لكنه أُرغم.
حتى الآن، لا يزال أحدهم مذهولا بما حدث له، إذ يقول أنه لم يعرف يوما معنى «سقط المتاع» إلى أن رأى بعينيه «الرفاق» الآخرين في الرحلة. فالمفروض أنه وإياهم من الموالين للنظام، وهو يؤكّد ذلك، لكنه لم يستطع أن يفهم كيف يُرسل أناسا بمواصفات مريبة شخصيا ومعيبة اجتماعيا إلا بأن النظام كان في الوقع يستهزئ بالمؤتمر وبفكرته وأهدافه.
بالطبع، تلاشت كل قيمة سياسية لمؤتمر سوتشي، إذ اضطرّت موسكو لتسليم «نتائجه» إلى ستيفان دي ميستورا الذي لا يعرف كيف يدمج «اللجنة الدستورية» المقترحة بصيغة جنيف، ولعل رفضها من جانب النظام يساعده على تجاهلها، فالنظام لا يحبّذ أي لجنة لا يشكّلها بنفسه. لكن المرارة لا تزال في حلق موسكو، بل انعكست لاحقا على خياراتها الثأرية، بعدما أُسقطت طائرتها «سوخوي 25» فوق إدلب وتعرّض مرتزقتها لمذبحة في دير الزور.
وقبل ذلك، كانت «سوتشي» كلّفت الروس «صفقة عفرين» مع الأتراك، وهي ما قلب المقاييس عند النظام والإيرانيين ودفعهم عمليّا إلى إظهار ما يشبه التحدّي لموسكو، خصوصا في إصرارهم على إرسال ميليشيات إيرانية (تابعة للنظام!) إلى عفرين، ثم في الإصرار على إقحام الفوعة وكفريا في التعديلات على قرار الهدنة (من أجل الغوطة)، فالإيرانيون يتصرّفون بالبلدتين (خلافا لإرادة أهلهما الشيعة) في كل مساوماتهم من الزبداني إلى عفرين والغوطة.
لكن «التحدّي» قفز إلى العلن بعدما لاحظ الإيرانيون والنظام أن ثمة اختلالا في التخطيط الروسي في مواجهة ما يثبّته الأمريكيون من وقائع على الأرض، تحديدا في شمال شرقي سورية، وما يوشك الأتراك على إحرازه في غرب الفرات. وقد لاحظت طهران ودمشق أن هناك تمايزا بين عسكر موسكو وسياسييها، فعلى رغم أن القرار لفلاديمير بوتين الذي عهد بالملف إلى المستوى العسكري إلا أن المستوى السياسي يسترشد أيضا بالخط الذي رسمه لهم بوتين نفسه.
وفي الفترة الأخيرة، بعد مؤتمر سوتشي وما تلاه، انزعج سياسيو موسكو من اللهجة التصعيدية لدمشق، إذ لم تعد ترضى بأقلّ من «استكمال النصر العسكري» ولم تعد تقبل بالقرار 2254 أساسا لأي حلّ، وهو ما حاضرت به بثينة شعبان، مستشارة الأسد، في «منتدى فالداي»، وهي كانت استُثيرت بمغادرة سيرغي لافروف القاعة برفقة زميله محمد جواد ظريف مع شروعها بمداخلتها.
لكن سياسيي موسكو أدركوا أن القيادة تدعم معركة الغوطة الشرقية، بدليل النسبة الكبيرة من الانسجام بين النظام وقاعدة حميميم في إدارة المعركة سواء بدفع سهيل الحسن إلى قيادتها أو بإفشال التفاوض مع الفصائل لتبرير إشعالها، لأن الهدف بات القضاء على المقاتلين في الغوطة تمهيدا لإسقاطها. وكان واضحا من تعليقات المندوب الروسي في مجلس الأمن أن المطلوب كسب الوقت لا أكثر، وأن أي قرار حتى بموافقة موسكو لا يعني أن الهدنة ستكون نافذة.
والواقع أنها لم تحترم إطلاقا، بل تكرّر استخدام غاز الكلورين في يومها الأول من قبيل تأكيد النيات. وعلى الرغم أن ممثلين لـ «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» شاركوا في اجتماعات أستانا، وأن «هدنات» عدة تمّ التفاوض عليها سابقا بين الروس وممثلين عن «فيلق الرحمن»، إلا أن مقتضيات الحسم جعلت موسكو تعتبر هذه الفصائل مستهدفة جميعا بسبب تعاونها مع «هيئة تحرير الشام - جبهة النصرة سابقا»، فالأخيرة مصنّفة إرهابية وتُستخدم ذريعة لاستهداف الغوطة، علما أن مواقعها هي الأقل عرضة للقصف الجوي والمدفعي.
لا يريد النظام استعادة أي منطقة مع أهلها، لذلك يفضّل إنزال الدمار الشامل بها وجعلها أرضا محروقة ليضمن تفريغها من السكان وتسليمها إلى الإيرانيين ليستولوا على «أملاك الغائبين». ليس في الغوطة مقاتلون أجانب ولا لاجئون أو غرباء، فجميع الـ400 ألف الذين بقوا فيها هم من أهلها ويملكون بيوتهم وأراضيهم، لذلك فإن مطاردة المدنيين وضرب المستشفيات والأسواق والأحياء السكنية تعني أن «الحسم العسكري» الذي يسعى إليه الثلاثي الإجرامي، الروسي - الإيراني - الأسدي، هو قرار مسبق بالإبادة الجماعية لأهل الغوطة.