سقطت كل المواعيد السابقة التي حدّدت لزيارة موفد القيادة السعودية الى بيروت، قيل أولاً إنه سيكون في بيروت مطلع شباط، ثم قيل إنها أُرجئت الى عشية الإحتفال بالذكرى الثالثة عشرة لـ 14 شباط الماضي، الى أن كانت «التجربة الثالثة» ثابتة، فتحقّقت الزيارة مطلع الأسبوع الحالي وجاءت سريعة ومكثّفة ومحصورة بيومين من اللقاءات كانا كافيين لتعبّر المملكة من خلالها عن الآلية الجديدة للتعاطي مع لبنان.
فمجرد أنّ العلولا بدأ زيارته من قصر بعبدا من حيث لم يقم به سلفه الوزير المكلّف شؤون الخليج تامر السبهان، تغيّرت النظرة اليها وجاءت خطوته باستئذان رئيس الجمهورية للقيام بجولته على القيادات السياسية وتوجيه الدعوة للحريري لزيارة الرياض لتزيد من الإقتناع بأنّ شيئاً ما قد تغيّر.
وأيّاً كانت الآراء والسيناريوهات التي نُسجت لمقاربة الزيارة، ففيها من الشكليات أكثر ممّا فيها من تعبير عن تحوّلات سياسية وديبلوماسية في انتظار إمرار المرحلة الأولى التي ستنتهي بإعادة ترتيب العلاقة مع الحريري و«التيارالأزرق» ومِن ورائهما الطائفة السنّية، التي اهتزّت علاقتها بالمملكة للمرة الأولى في تاريخها منذ قيام المملكة العربية السعودية. على أن يتقرّر في المرحلة التالية شكل وطريقة التعاطي مع الإستحقاقات الأخرى إقتصادية كانت أم إنتخابية وسياسية لبنانية داخلية.
ومن هذا المنطلق، ربطت مراجع ديبلوماسية تعاطت مع الزيارة بتوقيتها ومضمونها وما أنجزته الديبلومسية الفرنسية في إطار التحضير لحضّ دول الخليج العربي والدول المانحة على المشاركة في مؤتمر «سيدر 1» الذي يرث مؤتمرات باريس الثلاثة السابقة. فالجانب الفرنسي لمَس تردّداً سعودياً في المشاركة في هذا المؤتمر على خلفية العلاقة التي ساءت في الفترة الأخيرة مع عدد من حلفائها في بيروت.
وجاء سعي البعض للحلول مكان الحريري وتيار «المستقبل»، فلم يُثبتوا القدرة على أن يكونوا بدائل يمكن الإتّكال عليها. وكذلك لم يُثبتوا أنّ لديهم القدرة التي يعبّر عنها «بيت الوسط» ومن خلفه دار الفتوى التي تصرّفت ببرودة لافتة تجاه الأطراف التي رغبت أو سعت لأن تكون الوريث الشرعي لآل الحريري وأصدقائه في الطائفة ومرجعياتها الدينية المتمسّكة لأسباب كثيرة بأفضل العلاقات مع السعودية.
وعليه، فإنّ التحرّك السعودي لم ينطلق إلّا بعد انتهاء مهمة الموفد الفرنسي بيار دوكازن والمكلّف الإعداد والتنسيق مع الحكومة اللبنانية لمؤتمر «سيدر1» المقرَّر مطلع نيسان المقبل في العاصمة الفرنسية، الى الرياض وعودته منها الى بلاده حيث قدّم تقريرَه الى الرئيس ايمانويل ماكرون متمنّياً ومقترِحاً ضرورة رفع مستوى الإتصالات مع الرياض لتسوية العلاقة معها وضمان مشاركتها الفاعلة في المؤتمرات المقرَّرة للبنان من «روما 2» الى «بروكسل 2» ومروراً «بسيدر 1».
وعلى وقع المبادرة الفرنسية، وما انتهت اليه، بدا للمراجع الديبلوماسية نفسها، أنّ باريس التي تبنّت مقترحات دوكازن أوفدته الى بيروت منتصف الأسبوع الماضي لجسّ النبض اللبناني تجاه المقترحات السعودية بالدرجة الأولى والفرنسية بالدرجة الثانية ليُبنَ على الشيء مقتضاه.
ولذلك، فإنّ ما بدا ظاهراً أنّ المهمة نجحت وجاءت الاقتراحات الفرنسية مشفوعة بتغيير الرياض الطريقة التي تعاطت بها مع لبنان ورئيس حكومته، محمِّلة المسؤولية الى طريقة عمل وتفكير الوزير ثامر السبهان وفريقه وهو الفريق الذي ثبت أنه لم يُتقن اللغة الديبلوماسية في أيٍّ من الخطوات التي اتّخذها، ما قاد الى فشل مبادرته وأعاد عقارب الساعة في العلاقات بين بيروت والرياض عقوداً الى الوراء.
وهو ما هدّد بمتغيّرات لا يمكن القبول باستمرارها لفترة أطول ممّا طالت خلافاً لكلّ أشكال العلاقات المميّزة التي كانت قائمةً مع اللبنانيين عموماً ومع السُنّة خصوصاً والتي اكتسبت أشكالاً أخرى متميّزة ومتقدّمة مع دخول آل الحريري على خط العلاقات بين العاصمتين والدولتين منذ ثلاثة عقود.
ومن هذه الزاوية بالذات، كانت القراءة الديبلوماسية والسياسية للدعوة التي وجِّهت الى الحريري في شكلها وتوقيتها ومضمونها، وجاء موقفه متجاوباً معها الى اقصى الحدود ليعكس تقديره للجهود الفرنسية التي بُذلت ومعها التبدّلات في طريقة تعاطي المملكة معه ومع لبنان الرسمي ايضاً.
وبناءً على ما تقدّم، يضيف الديبلوماسيون أنّ اموراً كثيرة ستتوقف على نتائج زيارة الحريري للرياض هذه المرة والتي ستظهر نتائجها على مراحل سيترجمها بحركته السياسية والديبلوماسية. فإذا عاد الى بيروت مباشرة سيكون ذلك مؤشراً سلبياً ودليلاً على فشل المبادرة. وإذا توجّه الى باريس قبل عودته الى بيروت فستكون هناك حساباتٌ أخرى أكثر إيجابية. وإذا كشف عن عزمه القيام بجولة، بدأ التمهيد لها إعلامياً، على دول الخليج العربي لاستجرار الدعم الخليجي للبنان على كل المستويات، ستكون النتائج مبهرة وجيدة جداً.
والى ما هو منتظر من هذه الزيارة من إنجازات اقتصادية وسياسية وديبلوماسية، سيظهر لاحقاً حجمُ نجاح المبادرة الفرنسية ـ السعودية الجديدة في قدرتها على تزخيم حركة الإتصالات الجارية لترميم العلاقة بين حلفائها في بيروت وهو ما عبّرت عنه بزيارتين لافتتين الى معراب وبيت الكتائب المركزي في الصيفي ولقاء ليلي أجراه الموفد السعودي مع رئيس حزب الوطنيين الأحرار ووجوه من 14 آذار.
وإن لم تنتهِ الى أيِّ مؤشر ثابت الى إمكان إحياء العلاقة بين جميع مكوّنات ما كان يشكّل فريق 14 آذار، لخوض الإنتخابات النيابية فريقاً واحداً، فإنّ ذلك في نظر كثيرين ليس موعداً حاسماً وإنّ هناك ما يكفي من الوقت لإعادة ترتيبها. فالحريري وعلى رغم كل الضجيج عن تحالفاته قد لفت قبيل وصول الموفد السعودي الى بيروت، الى أنّ الحوار الجاري على أكثر من جبهة لا يؤشر للوصول الى التحالفات النيابية النهائية وإنّ هناك الوقت الكافي لإعادة النظر فيها.
وفي ضوء هذه المعطيات تفضل المراجع نفسها تأكيد الربط بين زيارة الحريري للرياض والمبادرة الفرنسية بمعزل عن المتغيّرات السعودية في النظرة الى الساحة اللبنانية، إذ متى انتهت هذه الزيارة وظهرت مفاعيلها التي لن تكون بعيدة سيبدأ البحث في بقية الفصول ومنها ما يتّصل بالإنتخابات النيابية، وهو أمر لا يحتاج ظهورُه جلياً الى كثير من الوقت. فالمهل الدستورية الخاصة بالترشيحات وتركيب اللوائح الإنتخابية ليست بعيدة وإن تحقّق أمر ما فإنه سيكون في إطارها الزمني.