عندما تتحول سوريا الى جبهة رئيسية من جبهات حرب باردة جديدة بين اميركا وروسيا، لن يحل بالسوريين، على إختلاف انتماءاتهم، سوى المزيد من العذاب والخراب، لأن الروس والاميركيين هذه المرة لا يخوضون صراع قيم وأفكار ، كما في النصف الثاني من القرن الماضي، ولا يملكون بالطبع إرادة التوصل الى تسوية تحترم المصالح المتبادلة ومناطق النفوذ المحددة.
طوال السنوات السبع الماضية، ظل الرهان على ان يكون الحل في سوريا خلاصة تفاهم أميركي روسي ما، يشبه تلك التفاهمات التي توصل اليها الجانبان في العقود الثلاثة الماضية وأنهت الكثير من الحروب والازمات والصراعات الاقليمية. سقط ذلك الرهان بشكل مدوٍ في الاسابيع القليلة الماضية، وها هي الحرب السورية تستعد لدخول عامها الثامن، بصيغتها المختلفة، وبصفتها شرارة حرب باردة جديدة بين الشرق والغرب، تشهد بين الحين والاخر إشتباكات مباشرة يقتل فيها مواطنون روس وأميركيون و يتقاتل فيها حلفاء الجانبين ويخوضون معارك جوية وصاروخية بالغة الخطورة.
هي حرب باردة، أو بالأحرى نسخة مشوهة منها. لا الغرب يستطيع ان يزعم أنه يقدم نموذجا متقدماً يمثل ذروة الحضارة الانسانية، ولا روسيا تستطيع ان تدعي أنها متفوقة أخلاقيا تحمل مشروعا ايديولوجيا يجسد توق البشرية الى الحرية والعدالة والمساواة. كلاهما يقدم صورة مريعة عن الانحطاط الشديد الذي أصاب المعسكرين، والذي اسفر عن تسليم قيادتيهما الى أخرقين لا يمتان بصلة لا الى إرث "العالم الحر" وقيمه، ولا الى ميراث الكتلة الاشتراكية وقواعدها.
في خضم هذه الحرب التي تشهد جولات أعنف من تلك التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، لا يعود مهماً السؤال لمن ستكون الغلبة هذه المرة. الاجابة معروفة سلفاً. الأهم هو السؤال عن الكلفة البشرية التي ستدفعها الشعوب التي تخاض "من أجلها" تلك الحرب، والدول التي تحولت أرضها الى جبهة مواجهة أميركية روسية، تتنازع خلالها الدولتان العظميان على مدن وبلدات وقرى ومزارع، أكثر مما تتنافس على قواعد عسكرية او على آبار نفط مثلا..
الكلفة البشرية، السورية تحديداً ، كانت ولا تزال مرتفعة جدا، لأن قواعد الحرب الباردة الراهنة أنتهكت الكثير من المحرمات، سواء من حيث الاسلحة المستخدمة التي كانت في ما مضى تعتبر محظورة مثل الصواريخ العابرة للقارات او القاذفات الاستراتيجية، او من حيث الاهداف المرسومة التي تقصر المواجهة او المنافسة على رفع معدل القتلى والجرحى المدنيين الى الحدود القصوى، او من حيث التسليم باستخدام السلاح الكيماوي الذي يكاد يصبح سلاحا فرديا يتم اللجوء إليه بشكل يومي تقريبا.
هذه الكلفة السورية مرشحة للارتفاع، لأن الحرب بلا ضوابط فعلية: قتل الأميركيون 150 روسياً في دير الزور وحميميم، وها هم الروس يقتلون 750 سورياً في الغوطة الشرقية. ثمة إشتباكات أخرى بين الجانبين على غير جبهة سورية، ليس من بينها عفرين. وثمة إنفجار كبير يوشك ان يحدث، عندما ستضرب إسرائيل قواعد الصواريخ الايرانية البعيدة المدى في جبال القلمون الغربي المتاخمة لسلسلة جبال لبنان الشرقية. وهو ما يمكن ان يفجر بركان الحرب السورية بشكل أكبر من أي وقت مضى.
درجة الاستنفار والتعبئة الروسية والاميركية تزيد يوما بعد يوم. اللغة المستخدمة من قبل كبار المسؤولين في كل من موسكو وواشنطن لا تدع مجالا للشك في ان الحرب لن تبقى باردة ولن تقتصر على اشتباكات محدودة وضربات متبادلة. الاتهامات التي يتراشق بها الاميركيون والروس لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات الثنائية، ولم يصدر مثلها حتى في ذروة الصراع بينهما في القرن الماضي. وهي كلها لسوء حظ سوريا والسوريين تندرج كلها تحت العنوان السوري، وتثير الذهول لصراحتها وصيغتها المباشرة التي تقف على عتبة التهديد المباشر باللجوء الى القوة، وهو خيار لم يخطر في بال أي رئيس أميركي أو أي زعيم سوفياتي مهما كان مجنوناً.
لن تكون سوريا سبباً لحرب عالمية ثالثة، لكنها صارت بالفعل مسرحاً وحيداً لحرب باردة ثانية، ولحروب بديلة متلاحقة، ترفع منسوب الدم السوري، الى الحد الذي يشفي غليل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يرضي غرور الرئيس الاميركي دونالد ترامب.. ويحيل مسألة بقاء السوريين الى صيغة الاستفهام.