بعدَ أكثر من 100 يومٍ على «ضرب الجنون» الذي اقترفته السعودية بحق رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، باحتجازه وإجباره على تقديم استقالته، ترجمت الرياض، أمس، قرارها القاضي بالسعي إلى طيّ هذه الصفحة، من خلال الاستقبال الملكي الرسمي للحريري في قصر اليمامة.
وإذ يصعب التكهّن منذُ الآن بانعكاسات زيارة الحريري للرياض، على المشهد الانتخابي، يمكن القول إن هذا التحوّل الإيجابي من قِبل المملكة، لم يكُن ليحصل لولا تعرّضها لضغوط أميركية ــ أوروبية، ودخول بعض الأطراف العربية على خطّ «الصُلحة» من منطلق «الحرص على السعودية قبل أي شيء آخر»، بحسب مصادر رسمية واسعة الاطلاع. وأكدت المصادر لـ«الأخبار» أن هذه الزيارة «أتَت تتويجاً لدور لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة». وكشفت المصادر أنه «منذ نحو شهر، زار رئيس المخابرات الإماراتية لبنان سرّاً والتقى الحريري ساعات طويلة، ومن ثم اجتمع بعدد قليل جداً من الشخصيات، من بينها الوزير نهاد المشنوق». ولفتت إلى أن «الجهد الإماراتي تركّز على إعادة تصويب الموقف السعودي من رئيس الحكومة الذي نجح خلال زيارته الأخيرة إليها في تحسين العلاقة معها». ورأت أن «الإمارات انطلقت في مبادرتها هذه من منطلق الحرص على السعودية، ولا سيما أن ما قامت به الأخيرة (احتجاز الحريري وإجباره على الاستقالة) كان كبيراً جداً وحُفر في ذاكرة اللبنانيين، وتحديداً السنّة، ويحتاج إلى جهد كبير لإزالته».
لكن بعيداً من الحديث عن هذا الضغط وهذه الوساطة، يبدو أن المملكة عادَت لتتعامل مع الملف اللبناني بواقعية سياسية. إذ تكمُن «الأهمية المُضاعفة لتوجيه دعوة إلى الحريري لزيارة الرياض في أنها اعتراف علني وصريح من قِبلها بأن الحريري بات أمراً واقعاً لا يُمكن تجاهله ولا تجاوزه، بعد فشل الانقلاب». هذا أولاً. أما ثانياً، فتراجعها عن قرار التخلّي عن مشروع سياسي استثمرت فيه الكثير، حتى لو اضطرها الأمر إلى دفع كلفة مُضافة، إذ لم يثبت أي طرف سياسي آخر القدرة على أن يكون بديلاً من الحريري، وبالتالي لا منطق يسمَح بشراء خصومة أو عداوة معه.
تنطلِق المصادر من هذا التمهيد في وصفها لمُجمل المرحلة الفاصلة بين منتصف ظُهر 4 تشرين الثاني 2017، وفجر 28 شباط 2018، للقول إنه لم يعد ممكناً استمرار «الغضبة» السعودية على رئيس تيار المُستقبل نتيجة ما تراه «تهاوناً وفشلاً في إدارة الملف اللبناني». تدفع إلى ذلك عدة عوامل: الاعتبارات الداخلية؛ الضغط الأوروبي، وتحديداً الباريسيّ، في إشارة إلى الدور الذي لعبه الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون خلال الأزمة وبعدها، ولم ينتهِ بعد محاولته ترتيب لقاء ثنائي بين الحريري والأمير محمد بن سلمان؛ الدفع الأميركي باتجاه إعادة احتواء الحريري، في ظل العلاقات القوية التي صاغها رئيس الحكومة مع جهات أميركية، وعلى وجه الخصوص مع برنارد كوشنير صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وُيضاف إلى ما تقدّم، تحضير الأرضية للمؤتمرات الثلاثة المقررة للبنان في كل من روما لدعم الجيش، وباريس لدعم الاستثمار وبروكسيل للمساعدة في ملف النازحين السوريين. فالحشد لهذه المؤتمرات لا يُمكن أن يحصل من دون الرياض التي سبق أن أطلقت إشارات عدم الحماسة لمشاركة فعّالة، ومعها دولة الإمارات.
وفيما ينشغل الوسط السياسي في فكّ شيفرة الرسائل التي مهّد لها الوفد السعودي، ومن المفترض أن يسمعها مجدّداً الحريري في الرياض، يتحدّث سياسيون كثر عن أن الهدف الرئيسي للسعودية هو إعادة لمّ شمل قوى 14 آذار، لخوض الانتخابات تحت شعار سياسي موحد. لكن هل ستسمح التسوية الرئاسية والقانون الانتخابي الجديد بذلك؟
من المُبكر تكوين صورة كاملة للظروف التي أحاطت بمحاولات تطبيع العلاقة بين الحريري والرياض، وتداعيات ذلك على الوضع اللبناني بشقّيه السياسي والانتخابي. لكن إذا صدقت الفرضيات أو المعلومات التي تتحدث عن نيات سعودية بإعادة تشكيل جبهة ضد حزب الله، فإن هذا الأمر دونه لا شكّ عقبات سيصطدم بها الحريري قبل أي طرف آخر. وهي عقبات تحدّدها الإجابة عن الأسئلة الآتية: هل يستطيع رئيس الحكومة فكّ ارتباطه برئيس الجمهورية ميشال عون الذي له في ذمّة الحريري دَين تحريره، مع علمِه أن إدارة الظهر لـ«الجنرال» قد تكلّفه رئاسة الحكومة كثمن. وفرضاً أن الحريري غامر بتحالفه مع العونيين، هل سيتحالف مع القوات اللبنانية الذي قال رئيسها سمير جعجع من منزله، وبوجود الوفد السعودي إنه يريد التحالف مع تيار المُستقبل، ولكن وفق الحدّ الادنى من التفاهم السياسي، أي تشكيل جبهة ضد حزب الله؟ هل سيقبل الحريري بالتحالف مع القوات بشروطها في حال تعرّضه لضغط المملكة، إذ تؤكد مصادر مستقبلية بارزة أن «القوات بالنسبة إلى الرياض أولوية»؟ وتسأل المصادر عن «إمكان صياغة تحالفات جدية»، خصوصاً أن «قانون الانتخابات هو كقانون قابيل وهابيل، يفرض على كل طرف البحث عن مصلحته أولاً، حتى لو اضطره الأمر إلى التضحية بحلفائه وإخوته، والمستقبل سيبحث أين مصلحته ويسعى إلى تحقيقها، وهو ليس مندفعاً باتجاه القوات ولا باتجاه التيار الوطني الحرّ». أما عن المال الانتخابي، فتقول المصادر أن «لا شيء مؤكداً من جهة المملكة، لكن طبيعة القانون الجديد لا تحتاج الى مال كثير، فالمال يستطيع أن يحُدّ من الخسارة لا أن يزيد الربح».
وفيما كان من المفترض أن يرافق المشنوق الحريري في زيارته، أشار وزير الداخلية إلى أنه «لظروف طارئة تغيّب عن المشاركة». وأوضح أنه «تلقى أمس اتصالاً من وزير الداخلية السعودي الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف بن عبد العزيز، للسؤال والاطمئنان. ودعاه إلى زيارة رسمية للمملكة نهاية الشهر المقبل».
وبينما استقبل الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الحريري أمس في مكتبه بالرياض، تطرق رئيس مجلس النواب نبيه بري خلال لقاء الأربعاء النيابي إلى مواضيع عديدة، ومنها زيارة الموفد السعودي نزار العلولا للبنان، إذ أكد للنواب أنها «زيارة سادت خلالها الأجواء الودية، وأنه سمع منه كلاماً إيجابياً للغاية عن لبنان ودوره التاريخي والحضاري». وأشار إلى أن الموفد السعودي سيستكمل لقاءاته بعد عودته مرة أخرى من المملكة.